د. حسنى ابوحبيب يكتب : أذناب المرتابين
“وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لايُوقِنُونَ” [الروم: 60]هذا القول الكريم ختم به ربنا جلّ شأنه سورة سُمّيت بسورة الروم، وقد بُدِئت تلك السورة الكريمة بوعد الله تعالى عباده المؤمنين بالنصر كما خُتمت به، كما تأكد هذا الوعد صراحة خلال آياتها في قوله تعالى: “وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ” [الروم: 47]، ولا شك أن وعد الله غير مخلوف وإن كان أكثر الناس لا يعلمون، ولقد ساق الله تعالى خلال تلك السورة الكريمة الآيات الدّالّة على عظمته وقدرته ووحدانيته،
كما تحدث عن ظهور الفساد في البر والبحر بسبب تلوث كسب الناس من الحرام ومن الشبهات، ثم يُذكِّرنا سبحانه بالصراع الأبدي بين دعاة الخير المستمسكين به، وبين العتاة المجرمين من رعاة الشر والمدافعين عنه، وأن العاقبة حتماً ستكون للخير وأهله، “وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ” [الروم: 47]، وقبل أن يختمها بيّن لنا أن هناك مراحل لا بدّ وأن يمر بها كل إنسان يمتدّ به الأجل، من ضعف إلى قوة ومنهما إلى ضعف وشيبة، “اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ” [الروم: 54].
مجيء كل هذا في سورة تسمّى بسورة الروم، بالتأكيد لم يأت عبثاً، بل ما جاء إلا لحكمة، وتاريخ الإسلام وأهله مع الروم لا يخفى على أحد، وبمفهوم العصر الحديث تاريخ الإسلام مع الغرب منذ الاحتكاكات الأولى في مطلع العقد الثاني من الهجرة النبوية المباركة، بداية من موقعة اليرموك وما تلاها من مواقع عبر العصور المختلفة والأزمان المتعاقبة حتى زماننا هذا خير شاهد على هذا الصراع الدامي.
وأرى أن الحكمة التي تكمن في ختم هذه السورة الكريمة بهذا القول الكريم، لتحذّر المسلمين من هؤلاء الروم، لأنهم سيربون أذناباً لهم من المرتابين، الذين سيتزيُّون بزيِّ المسلمين، ويتسمُّون بأسمائهم، وربما كانوا من جلدتم وأبنائهم، ليغرثوا الشك والحيرة في نفوس ضعاف الإيمان منهم، وليلقوا الرعب والوهن في قلوبهم، وما نراه ونسمعه في الآونة الأخيرة من هجوم على الإسلام بشكل خبيث، بالتشكيك في ثوابته تارة، والانتقاص من رموزه ودعاته تارة أخرى، من أبناء جلدتنا وديننا ممن تربوا في مدارس (الروم) الغرب، وأكلوا من موائده، لَيُظهر الحكمة من وراء ختم تلك السورة بهذا القول الكريم، “فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ”.
أذناب تربت على أيدي الروم، وفي مدارسهم، أكلوا طعامهم، فانساقوا وراء كلامهم، وقديماً قالت العرب: من أكل طعامك ردّد كلامك. ولقد تعددت أقسام تلك المدارس وتخصُّصاتها، وبتعددها تعدد تخصُّص دارسيها، فأوكلوا لكلٍّ تخصص مهمة، وألبسوا كل قسم ثياباً ليلتبس الأمر علينا فلا نكاد نميّز بين الناصح وغيره.
فهناك من لبسوا ثياب الحرية، ومن خلالها هاجموا الحرية بكل حرية، فباسمها طالبونا أن نتخلى عن ديننا وأعرافنا وهويتنا، فالمستمسك بدينه في عرفهم صار متزمتاً، والمحافظ على هويته أصبح عندهم رجعياً، والغيور على عرضه وشرفه أمسى لديهم متخلفاً. يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، ويخرجون علينا كل حين بعجيبة من عجائب الزمان، وغريبة من غرائب الدهر، فألصقوا بالدين كلَّ عيب، ونسبوا إليه كلَّ نقيصة. حتى صدق فيهم قول القائل:
يعيبون الدين والعيب فيهم وما للدين عيب سواهم
ويصفون الزمان بكل قبح ولو نطق الزمان لهم هجاهم.
كما أن هناك صنفاً من أولئك المردة ألبسوهم ثياب الدين، لا لشيء إلا ليشوّهوا صورته، ويظهروه أمام العالمين بدين القتل والسلب وسفك الدماء وهتك الأعراض، فقاموا بدورهم شرّ قيام، فمزّقوا الأمة باسمه، وخرّبوا الأوطان برسمه، لا همَّ لهم إلا إبراز مساوئنا وتشويه قادتنا ورموزنا، الدين لديهم لا يزيد على سواك وجلباب، والوطن عندهم لا يعدو حفنة تراب، وظيفتهم نشر الضباب، ورسالتهم حتماً هي الخراب.
إن ضُيّق عليهم أو انكشف أمرهم إلى سادتهم عادوا، وبمن لقّنوهم الفتن لاذوا، فعندهم يقيمون، ومن على منابرهم يهاجمون، وبمعاولهم يهدمون، وبإعلامهم للفتن ينشرون، عداؤهم للدين قديم، وتلبيسهم على الناس باسمه وتشويه رموزه وقادته منذ ظهوره لا يخفى على ذي لبٍّ.
كما أنّ هناك صنفاً ألبسوهم ثوب التفاهة والدياسة، بعد أن ربوهم على (المويوعة) ودربوهم على حبّ النجاسة، حتى يقف أمامك الواحد منهم فلا تكاد تعرفه أذكر هو أم أنثى، أجسام بلا أحلام، أفكار مهلهة وثياب بأيديهم ممزقة، رسالتهم نشر الرذيلة بين شبابنا، ومهمتهم تحويلنا لمسخ لا ينتمي لشيء لا لدين ولا لوطن، شباب لا همّة له إلا بطنه، ولا غاية له سوى فرجه، وأغدقوا عليهم الذهب والورق، حتى أصبح أغناهم أكثرهم تفاهة، وأحقرهم خلقاً، وأخسهم طبعاً، فغزونا بأخلاق مذمومة، وبكلمات مبتذلة، وأغانٍ وضيعة، وموسيقى هابطة، حتى أفسدوا الذوق العام أو كادوا يفسدوه.
أعلمتم الآن الحكمة التي جعلت هذا القول الكريم ختاماً لسورة الروم، فيا أيها المسلم الكريم إياك ثم إياك أن يستخفنك هؤلاء وأمثالهم، واثبت على دينك واستمسك به إنك على صراط مستقيم، واعلم أن المرتابين – وما أكثرهم في كل زمان ومكان – غثاء كغثاء السيل، لا وزن لهم، ولا فائدة من ورائهم، ولا ثمرة لأعمالهم، يفنون ويظل الدين، ويرحلون ويبقى الوطن، ويذهبون وتمكث الفضيلة، والله لا ريب غالب على أمره، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وأختم بما رواه ابن جرير وغيره: أن رجلاً من الخوارج نادى عليّاً بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو في صلاة الفجر فقال: “وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ” [الزمر : 65]، فأنصت له عليّ حتى فهم ما قال، فأجابه وهو في الصلاة: “فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ”.
ونحن نردد هذا القول الكريم: “فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ”، فالنصر حتماً لمن تمسك بدينه، والفلاح لمن صبر وصابر، واعتصم ورابط، “ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” [آل عمران: 200].