محمد حربي يكتب: بزشكيان وحدود الثوابت والمتغيرات !
انتهجت إيران مبدأ ” لا شرقية لا غربية”، ضمن ثوابتها، ودستورها، وكان مفهوم الحيادية محور سياستها الخارجية، قبل أن تنهج إستراتيجية “التوجّه شرقاً “، تعويضاً عن علاقات طهران مع الغرب. والانتقال من التحالفات التكتيكية المؤقتة – أي المرهونة بتحقيق أهداف محددة في لحظات تاريخية بعينها-، للتعاون الاستراتيجي الشامل. وبناء شراكات على أسس، واعتبارات ” براغماتية”، مع قوى دولية فاعلة مثل روسيا والصين؛ يجمعَها السخط على النظام العالمي الحالي، والبحث عن الجديد. وإن كان قد اقتصر ذلك على مجرد تصورات نظرية، من دون طرح البديل المناسب، لما ينبغي أن تكون عليه الهياكل، والمؤسسات، وقواعد السلوك الدولية. وذلك في ظل مناخ جيوسياسي – تأثير الجغرافيا على السياسة- معاصر، ومتجدد المنافسة بين القوى العظمى. وعليه، فقد ظلت الخيارات الإيرانية محصورة في دائرة علاقات محدودة، انعكست على حركة دبلوماسيتها الخارجية؛ بينما الحلفاء الشرقيين الآسيويين، يعززون من تعاونهم الاقتصادي والتجاري مع الغرب عامة والولايات المتحدة على وجه التحديد، لتحقيق المصالح الخاصة.
ولأن عالم السياسة ليس به ثوابت جامدة؛ وإنما هو كالنهر الجاري، دائم التجدد والتغير. تحركت إيران نحو نقطة تحول جيوسياسية. وعملت من أجل تعزيز مكانتها، سواء على مستوى دول الجوار، أو إقليمياً، ودولياً. وقد ظهر هذا بشكل واضح، في انتقال إيران من مقعد الحياد، إلى دائرة أكثر عمقاً في علاقاتها مع دولة مثل روسيا. كما سعت إلى تصفير المشاكل مع دول مجلس التعاون الخليجي، عبر المصالحة والتهدئة مع المملكة العربية السعودية، بوساطة صينية. فيما جاءت معركة” طوفان الأقصى” يوم 7 أكتوبر ( عام 2023م.)، لتكشف أمامها القوة الحقيقية للعدو الصهيوني، وأنه صناعة ” بروباغندا”، تأكد زيفها مجدداً بشأن أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر. وأصبح كل ما تحتاجه طهران الآن، هو عملية ضبط للتوجهات الخارجية. وقد كان الرئيس الإيراني الأسبق” روحاني”؛ قد رسّخ لنهج أكثر توازنا، جعل فيه التوجه شرقاً، مكملاً؛ لا بديلاً عن علاقات الغرب.
وكانت نظرة الرئيس ” روحاني” برغماتية للغرب، واعتبره شريك، لا خصم مع إيران؛ ويمكن لطهران التعويل عليه في مسار التنمية الإيرانية، والإدماج في المجتمع الدولي. وهذا يعكس فلسفة، فصل المسارات عن بعضها، وعدم وضع الجميع في سلة واحدة عند التعامل؛ بل يجب التمييز بين اللوبي الصهيوني، وغيره من الشركاء الدوليين. وخلال مرحلة الاتفاق النووي التاريخي بين إيران ومجموعة الدول 5+1 (أي الدول الخمس دائمة العضويّة في مجلس الأمن الدولي بالإضافة إلى ألمانيا)؛ عملت الصهيونية بشكل واضح، على نسفه. حتى أن رئيس حكومة الكيان الصهيوني ” نتانياهو”، وقف أمام اجتماع مشترك للكونجرس الأمريكي، وبدون إذن إدارة البيت الأبيض في عهد باراك أوباما؛ ليهاجم الاتفاق، وينتقد القيادة الأمريكية؛ التي وافقت عليه. ولتظل العقوبات المفروضة مستمرة، بهدف الإضرار بمصالح الإيرانيين.
ومن أجل حماية المصالح الإيرانية، جرت محاولات من الرئيس ” روحاني”، لفتح قناة مع لاعبين أوراسيّين، ودول غربية لرفع العقوبات، وإفساح المجال أمام التعاون المشترك. وقد وضع وزير خارجيته آنذاك محمد جواد ظريف، رؤيته بشأن كيفية بناء علاقات خالية من التوترات مع الغرب، ومتوازنة مع التوجه نحو الشرق؛ لتحقيق مشاركة دوليّة بنّاءة. تعززها عملية الانخراط الإيراني في المبادرات متعددة الأطراف، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتيّة، ومبادرة الحزام والطريق، والاتحاد الاقتصادي الأورواسي، ومنظمة شنغهاي للتعاون؛ وجميعها مكملة لتعزيز علاقات طهران الثنائيّة مع دول المنطقة. وقد يكون في اختيار الإيرانيين لشخصية إصلاحية مثل الرئيس مسعود بزشكيان – جراح القلب-، رسالة بالرغبة في بدية صفحة جديدة مع العالم الغربي، للبحث عن القواسم المشتركة، التي تحقق المصالح للجانبين، دون المساس لا بالثوابت.
إذاً فالثوابت الإيرانية، تبقى كما هي؛ وما عداها توجد مساحة أمام أي رئيس إيراني، يتحرك فيها، لإحداث التغيير، وترك بصمته في الحياة السياسية بالبلاد. ولذلك كان مسار التفاوض حول البرنامج النووي الإيراني، يصعد ويهبط، بين الانفراجة والتأزم، بحسب الخلفية المحافظة أو الإصلاحية، من “محمد خاتمي” إلى “محمود أحمدي نجاد”، “حسن روحاني”، ” إبراهيم رئيسي”، وصولاً إلى” مسعود بزشيكان”؛ والذي قد يواجه عودة دونالد ترامب، مرة أخرى رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، بتوجهاته المتشددة، وانحيازه اللامحدود للكيان الصهيوني. ويتزامن هذا مع منقطة ملتهبة، وعلى صفيح ساخن، وقابلة للانفجار، واشتعال حرب إقليمية؛ وقد تتجاوز حدودها المكان، والزمان؛ فتتسع دائرتها الجغرافية، وتزيد من انتكاسة التنمية الاقتصادية لفترة زمنية طويلة.
ومن أجل التنمية الاقتصادية، تسعى إيران للمناورة الدبلوماسية لتنويع علاقاتها الخارجية، وقد عزز فوز “بزشكيان “بالرئاسة الإيرانية بعد حصوله على نحو 54 بالمئة من أصوات الناخبين خلال الجولة الثانية، آمال الإيرانيين، وتطلعاتهم في إحداث تغيير يساهم في خروج الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من دائرة العقوبات، وتحسين العلاقات مع الغرب، وفتح آفاق أوسع مجالا لتسوية خلافات طهران مع القوى العالمية حول البرنامج النووي، وفقاً لأسس عادلة. وتلك هي مهمة الرئيس الإصلاحي الجديد، المطلوب منه عملية إنعاش اقتصادي، التي وعد بها الناخبين؛ وتعهد بأنه سيمد يده بالصداقة للجميع، وينفتح على المنطقة والجوار. وهذا بفتح صفحة جديدة مع الدول العربية؛ وإن بالفعل حدثت حلحلة في العلاقات مع الرياض، وأبوظبي، والمنامة، والكويت، في حين هي لم تشوبها شائبة مع مسقط والدوحة، منذ زمنٍ طويل.
لعمرك، إن التقارب العربي الإيراني؛ لهو طوق النجاة الحقيقي للإقليم. وجهود التقارب الحقيقي سوف تخدم كلا الطرفين. وحاجة طهران للمساندة العربية ماسة الآن، في ظل قيادة إصلاحية إيرانية لها رؤيتها، وتتحدث عن مد يد الصداقة، لترميم أي شروخ؛ قد تكون أصابت العلاقات من قبل. وعندما تعمل إيران على تصفير المشاكل مع الجيران العرب، فإنها سوف تدخل الجولة الجديدة من مفاوضات البرنامج النووي، بظهير عربي مساند وداعم لها، في مواجهة أي تآمر صهيوني، يسعى لإجهاض كل محاولة لإخراج الإيرانيين من عنق زجاجة العقوبات الدولية؛ التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية. في حين تكون المكاسب العربية متشعبة المصالح، سواء على المستوى الثنائي، أو العربي، أو الإسلامي – البعد الخاص بدعم القضية الفلسطينية-، وربما بالنسبة لأمن المنطقة والإقليم ككل.
إن اختيار الشعب الإيراني ” بزشكيان” وهو من التيار الإصلاحي، رسالة بأن مرحلة جديدة في تاريخ إيران، بدأت أول فصولها. ومن الأهمية استثمار ذلك، والنظر إلى إيران، في سياق دورها الإقليمي، وكشريك في أي ترتيبات أمنية، بما في ذلك تأمين الممرات البحرية، وما لها من تداعيات اقتصادية على دول المنطقة. ويمكن لطهران أن تكون رافداً للقوة العربية، ولاسيما في مواجهة غطرسة الاحتلال الصهيوني؛ الذي يحتل فلسطين، منذ 57 عاماً. كل ذلك في ظل إرهاصات تشّكُل نظام عالمي جديد؛ ولابد من تكتل عربي إيراني إسلامي قوي، يحترم الثوابت عند كل طرف، ويتحرك في دائرة الممكن والقابل للتغيير.
كاتب وصحفي
[email protected]