دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب: عيبك سرّ كمالك ونقصك هو عين تمامك

قال تعالى “فَأَرَدْتُ أَنْ أعِيبها”شاءت حكمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن يجعل لهم الكسر جَبراً، كما اقتضى لطفه سبحانه أن يخفي في طيّاتِ أخذِه عجائب مننه وجزيل عَطائه، ‏وأن يجعل الفناء سبباً للإبقاء، وما ذلك إلا لأنهُ رحمَن رحيم؛ منعُهُ حِكمة، وعطاؤُهُ رَحمة.

جاء هذا القول الكريم في سورة جعلها الله تعالى نوراً لعباده المؤمنين، تُنوّر دروبهم، وتُعَبِّد سبلهم، وتُمهّد طرقهم، من الجمعة إلى الجمعة، فلا ضلال لمن قرأها، ولا عثرة لمن تدبرها، ولا عنت لمن فهم مرماها وعمل بمقتضاها، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ”. [رواه البيهقي في سننه].

كما أنها عصمةٌ من الدجال، ومنجاة من الفتن، “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ بِعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يَضُرَّهُ” [رواه الطبراني في معجمه].

يأتي هذا القول الكريم ليُبين لنا أن لطف الله تعالى بعباده المؤمنين لا ينفك عنهم أبداً، هذا لمن يوقن بربه ويفطن لحكمته، وإنهم والله لقليل، فقد يكون ظاهر الأمر ضرراً، بيد أن باطنه نفع محض، فهذه السفينة التي استقلّها سيدنا موسى وسيدنا الخضر عليهما وعلى نبينا السلام، كانت سالمة من كلّ عيب ظاهراً، وسلامتها الظاهرة تلك، كانت على وجه الحقيقة سرَّ عيبها، إذ بذاك العيب الخفي ستخرج من أيدي أصحابها ليد ذلك الملك الغصوب، فأراد سيدنا الخضر ذلك الوليّ الذي فتح الله عين قلبه على بواطن الأمور وحقائقها أن يعيبها ظاهراً، بينما أبرأها على وجه الحقيقة من عيبها باطناً، وما الضير إذا كُسرت الأواني وسلمت المعاني، أو كُلِمَت الأشباح وبرئت الأرواح.

نعم إن كثيراً من الناس اليوم لا ينظرون إلا إلى ظواهر الأشياء، أما بواطنها فهم عنها معرضون، وما ذلك إلا لأن الدنيا استعبدتهم، والمادة أسرتهم، وصدق فيهم قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} [الروم: 7]. سيطرت الدنيا على قلوبهم فأصبحوا لا يرون إلا زخرفها ولا يلتفتون إلا لبهرجها، أفنوا في جمعها الأعوام والأعمار، وأخيراً علموا أنها ليست لهم بدار، فغادروها بلا زاد، وقدموا على مولاهم بلا استعداد، وتدبر معي قوله تعالى: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ” [آل عمران: 14]

وبعد هذا يذكر ربنا بأن هذا كله ما هو إلا متاع زائل، وهو عنده فقط حسن المرجع والمآب، “ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ”[آل عمران: 14].

لذا كان أولئك الذين نظروا إلى بواطن الأمور وحقائقها أبعد الناس عن الهم والحزن وأنجى الناس من الخوف والفتن، سأل الحواريون سيدنا عيسى عليه السلام: من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال عليه السلام: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، وأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالا، وذكرهم إياها فواتا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنا، وما عارضهم من نائلها عارض إلا رفضوه، وما خادعهم من رفعتها بغير الحق خادع إلا وضعوه، خَلِقت الدنيا عندهم فليس يجددونها، وخربت بينهم فليس يعمرونها، وماتت في صدورهم فليس يُحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها فرحين، وباعوها فكانوا ببيعها رابحين، نظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات، فأحبوا ذكر الموت، وتركوا ذكر الحياة، يحبون الله تعالى، ويستضيئون بنوره ويضيئون به، لهم خبر عجب وعندهم الخبر العجب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليسوا يرون نائلا مع ما نالوا، ولا أماني دون ما يرجون، ولا خوفا دون ما يحذرون، أولئكهم أولياءالله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فيا كلّ حزين اسعد فقد يكون حزنك اليوم هو سبب فرحك غداً، وتذكر قول نبيك صلى الله عليه وسلم: “مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً” [رواه الإمام مسلم].

ويا كلّ مريض أبشر فقد يكون مرضك سبباً لسعادتك في الدارين، وتأمل قول شفيعك صلى الله عليه وسلم: “مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا سَقَمٍ، وَلَا حَزَنٍ، حَتَّى الْهَمُّ يُهِمُّهُ، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ” [رواه البيهقي في سننه].

ويا كلّ مهزوم لا تيأس فقد تكون هزيمتك مقدمة لنصر عظيم لا يعلمه إلا الله، ويا كلّ مظلوم كن على يقين أن الله تعالى قد استجاب دعاءك وقبل مناجاتك، ويا هؤلاء جميعاً اذكروا وذاكروا قوله تعالى على الدوام: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً” [الشرح: 5 ، 6].

نعم “فَأَرَدْتُ أَنْ أعِيبها” عابها فكان عيبها سبب بقائها في أيدي أصحابها، هكذا يفعل الله تعالى مع كلّ واحد منّا، فربّما يأخذ ليعطي، وربّما يُمرض ليشفي، وربّما يضع ليرفع، وربّما يُفقر ليُغني، وقد تأتي الفوائد من وجوه الشدائد، فسبحانه لا ينفك لطفه عن قدره، “وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ” [العنكبوت: 43].

العلّة في فهمنا، فمتى فهمنا الفهم الصحيح عن ربنا سبحانه وآمنا بأنه تعالى أرحم بنا منّا، وأيقنا أن تدبيره لنا فيما نكره خير لنا من تدبيرنا لأنفسنا فيما نحب، أدركنا حكمته في منعه، ولطفه في أخذه، فصار منعه عطاء، وأخذه اصطفاء، ورحم الله سيدي أحمد بن عطاء الله إذ يقول: “متى فتح لك باب الفهم في المنع، عاد المنع عين العطاء”.

“فَأَرَدْتُ أَنْ أعِيبها”، فقد يكون عيبك سرّ كمالك، وقد يكون نقصك هو عين تمامك، كما يكون ذنبك سبب اصطفائك، المهم ألا تركن إلا إلى الله، وألا تتوكل على سواه.

فاللهم اجبر كسرنا، واستر عيبنا، وارحم ضعفنا، خذنا إليك منا، واشغلنا بك عنا، وإلى غيرك لا تكلنا، ولا تبلونا ولا تمتحنا أنت أعلم بضعفنا منا، وكن لنا حيث كنا.

هذا، وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى