آراء

د. حسني ابوحبيب يكتب: الإنسان ودوابِّ الأرض

قال تعالى “وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ” [الأنعام: 38].

شاءت حكمة الباري عز وجل أن يجعل بين الإنسان ودوابِّ الأرض وهوامّها قواسم مشتركة، وأوضح ما تكون تلك القواسم في الأخلاق والطباع، كما شاءت حكمة الله تعالى أن تتطبّع فئام من بني البشر بطباع كثير من هذه الدوابِّ وتلك الهوام، والمتأمل أحوال مخلوقات الله تعالى يجد أنّها لا تخرج عن فطرتها، وأنَّ ظاهرها كباطنها، وأنّها هي هي، ما عدا ذلك الإنسان، فإنّه يُحارب ليخرج عن فطرته، ويُكابد ليُخالف طبيعته، ويُجاهد ليُظهر خلاف ما يُبطن، ويُعاني ليخرج عن نفسه ويكون غيره. فقد يكون جائعًا بينما يُظهر الشبع، وربما كان متخمًا بيد أنه يُظهر الجوع، كما يمكن أن يكون غنيًّا ويدّعي الفقر، والعكس، وهكذا.

وفي تلك الآية المباركة التي افتتحنا بها مقالنا أثبت الله المماثلة بين تلك الأناسي وبين البهائم وذلك في الأخلاق خاصة، فليس أحد من الخلق إلا وفيه خلق من أخلاق البهائم، ولهذا تجد أخلاق الخلائق مختلفة ومتفاوتة، والعاقل المتفرّس أخلاق الناس وطباعهم، واللبيب المتأمّل أحوالهم وسلوكهم، والحكيم الذي يراقب تصرفاتهم في معايشهم وحياتهم، ليجد أنه يعيش مع أخلاط شتى من بهائم وسباع وهوامٍّ وحشرات. فليرزقه الله الصبر وليمده بالعون حتى يستطيع العيش مع تلك الكائنات الغريبة العجيبة.

ودونك أُخَيَّ بعض النماذج.

* فمن بني آدم من ينتمي إلى عالم النمور والسباع، من أصحاب الأنياب والمخالب، ومن علاماته أنك تجده جاهلًا في خلائقة غليظًا في طبائعه قويًّا في بدنه لا تؤمن ضغائنه وعواديه. هجّامًا على أموال الناس وأرواحهم. والعرب تقول: أجهل من نمر. فمثل هذا احترس منه كما تحترس من النمر وسائر السباع.

* ومنهم من يشارك الحيّات والعقارب طباعها، فينفث سمّه في كل مكان وُجد فيه، يتنفس سُمًّا، سريع الحركة خفيَّها، أينما وجد آذى، وأينما كان ضرَّ، فيجب عليك صاح أن تحذره وأن تبتعد عنه، فإن اقترب منك عليك أن تدوسه بقدمك كما تفعل بالزواحف الضارّة.

ومنهم من ينتسب إلى عالم الكلاب، ومن أماراته أنك تراه هجّامًا على أعراض الناس بلا سبب، مجترءًا على دمائهم ولحومهم بلا داعٍ، فإن دأب الكلاب أن تجفو من لا يجفوها وتؤذي من لا يوذيها، فعامله بما كنت تعامل به الكلب إذا نبح، فاذهب واتركه يعوي.

وهناك من تراه منخرطًا في عالم الحمير، فلا تراه إلا مخالفًا لا لشيء إلا لأجل الخلاف، إن قلت: نعم. قال: لا، وإن قلت: لا. قال: نعم، إن أدنيته ابتعد عنك، وإن أبعدته اقترب منك، يصعب الانتفاع به، ومع هذا لا يمكنك مفارقته.

كما أنّ هناك صنفًا يلتحق بعالم الثعالب، فلا تراه إلا خبيثًا كثير الروغان، لا تأمن جانبه ولا تطمئن لجواره ، يلبس ثياب الناصح ويرتدي درع الأمين، وربما تزيّن بجُبَّة الواعظ الناسك، وهو أخبث الناس طرًّا، والمخطئ من ظنّ أن له دينًا وعهدًا، إن عاهد غدر وإن وعد أخلف. فهؤلاء البعد عنهم غنيمة، والقرب منهم جريمة.

وإنّ من بني آدم من يندرج في عالم الخنافس والجُعلان، تعرفهم بسيماهم، فهم ينفرون من سماع العلم والحكمة ويفرون من مجالس العلماء، ولا يأنسون إلا بمجالس أهل الدنيا من غيبة ونميمة وكذب وبهتان، ولا عجب في ذلك فالخنافس إنّما يعجبها أكل العذرات وملامسة النجاسات وتنفر من ريح المسك والورد وإذا شمت الرائحة الطيبة ماتت لوقتها.

وهناك صنف يُعزى إلى عالم الطواويس، لكثرة نظره في عطفيه، وتصعيره خديه، وشغفه بمظهره وإهماله لمخبره، يعشق الترف، ويهوى الكبْر، يفعل بنفسه ما تفعل المرأة لزوجها. فمثل هذا اجتنابهم أفضل والابتعاد عنهم أسلم.

وهناك من ينضم إلى عالم الجمال، وتعرفهم بحقدهم وغلّهم وعدم نسيانهم الإساءة والهفوات، فيعاقبون على السقطات وإن تباعد زمنها، ويخزنون في أجوافهم هفوات الناس وسقطاتهم، حتى يعاقبوا أهلها عليها، لذا قيل: أحقد من جمل. وهؤلاء يجب الحذر منهم لأن معاملة الحقود لا سلامة معها.

وهكذا لو تأمّلت أصناف البشر واختلاف طبائعهم لأيقنت بصدقه تعالى في قوله: “وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ”.

وختامًا نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا هو.

هذا، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. “وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ”

زر الذهاب إلى الأعلى