د. حسني ابوحبيب يكتب: ركاب القطعان

“وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ” [الأنعام: 116].
هذا القول الكريم خاطب به ربنا جل وعلا رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، في وقت كان فيه صلى الله عليه وسلم يعاني أشدّ المعاناة من تكذيب قومه له وإيذائهم إيّاه، حيث نزل هذا القول الرائع في السنة الخامسة من البعثة النبوية في سورة أطلق الله تعالى عليها اسم سورة الأنعام، وما ذاك إلا لحكمة بالغة، حيث ذكر الله تعالى فيها أصنافًا شتى من بني آدم كأنهم -على اختلاف أزمانهم وأجناسهم وألسنتهم- تواصوا فيما بينهم على تكذيب الحق ومعاداة أهله، حتى وإن نزل عليهم في قراطيس من السماء وكلّمهم به الموتى، إلى غير ذلك من الآيات والبراهين، فلا قلوب لهم ليفقهوا بها ولا أبصار لديهم ليبصروا بها، ولا آذان لهم ليسمعوا بها، وقوم تلك صفاتهم هم بالطبع أقرب ما يكونون إلى الأنعام، هذا إن لم يكونوا منها أضل، هؤلاء هم المعنيّون بقوله تعالى: “وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ” [الأعراف: 179].
أيضًا يحذّر الله تعالى نبيّه في هذا القول الكريم من أن تغرّه كثرة أهل الباطل وعلوُّ أصواتهم، فالباطل باطل وإن كَثُر أهله، والحق حق وإن قلَّ أهله، فقطعان الحيوانات وإن كثُرت فكثرتها لا تخرجها عن كونها حيوانات، حيث يبقى الحيوان حيوانًا في طبعه وإلفه وإن ملأت السهول والوديان قطعانه، فلا الكثرة تُخرجه عن طبعه ولا الزيادة عن خسّة أصله.
وما شقي العالم إلا بعد أن احتكم إلى الكثرة فقط وأهمل العقل والتفكير، لذا جاء الإسلام يحذّر من هذا المسلك الشائن ليردَّ الناس إلى الاحتكام بعد كتاب الله تعالى وسنة نبيّه إلى رأي أولي النهى أصحاب العقول وأرباب الفكر، أولئك هم الذين يعرفون بأهل الحلّ والعقد، وهم الذين أمر الله تعالى رسوله بأن يشاورهم في الأمر، “وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” [آل عمران: 159].
والثابت أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يشاور إلا أهل الرأي والعقل والسابقة من أصحابه.
وفي العصور المتأخرة -لفظًا ومعنى- بدأ الدهماء والغوغاء يُدلون بأصواتهم في عظائم الأمور دون وعي ولا تفكير، وصار صوت الأحمق كصوت الحكيم، وساوى رأي النوكى والمغفلين رأي العلماء والمتخصصين، واستغلّ أصحاب المآرب والأغراض هؤلاء الحمقى وأؤلئك النوكى في تحقيق مصالحهم الشخصية ومنافعهم الوقتية على حساب مصالح البلاد ومستقبل العباد. فماذا كانت النتيجة؟، جاءت مرعبة فربما قاد العالم أحمق أو ساده مأفون استطاع أن يشتري بماله حمقى كثر ونوكى أكثر.
ولقد استوعب رسولنا الكريم هذا الأمر وعمل بمقتضاه، بله حذّر أمّته من أن تحيد عنه، أو أن تسمع للتافهين الرويبضات، وعدّ ذلك علامة من علامات الخراب والخسران.
روى الحاكم في مستدركه بسنده، “عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: تَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ جَدِعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهِمُ الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ”.
نعم صدق ربُّنا “وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله” وكأنّ رسولنا سأل ربَّه: لِمَ يارب؟ فجاء الجواب: “إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ” [الأنعام: 116]. فما يتبعون حقًّا بل يتبعون ظنًّا وتخمينًا وباطلًا.
وأختم بقصّة طريفة تصوِّر مدى تأثير الأغلبية الفاسدة وقدرتها على قلب الحقائق.
يروى أنه كان لأحد الأشخاص خروف، أراد بيعه، فأخذه إلى السوق، فرآه أربعة لصوص واتفقوا أن يسرقوه بأسلوب قلب الحقائق وتزوير الواقع.
فتقاسموا الجلوس على الطريق الذي سيمر منه صاحب الخروف. فجلس الأول في أول الطريق، والثاني في الربع الأول منه، والثالث بعد منتصفه، بينما جلس الرابع في نهايته.
فلما مرّ صاحب الخروف على الأول سأله اللص: لماذا تقود هذا الكلب؟.
ردَّ الرجل متعجبًا: ليس كلبًا بل هو خروف، سأبيعه في السوق!. ثم تركه ومضى.
وبعد مسافة، قابله اللص الثاني فقال له: لماذا تقود كلبًا مربوطًا بحبل؟!.
بدأ الرجل يشكُّ قليلاً، لكنّه أكمل طريقه. حتى التقى باللص الثالث، فقال له: عجيب أمرك! تسحب كلبًا وتظنه خروفًا؟!.
وهنا زاد الشك في عقله، لكنه تغلّب عليه، ومضى حتى قابله اللص الرابع وسأله: هل جننت؟ تمشي بكل ثقة وتسحب كلبًا؟!.
هنا انهارت قناعة الرجل تمامًا، وقال في نفسه: ليس معقولًا أن يكون الأربعة كاذبين!!!. وأنا وحدي الصادق، ففكّ الحبل من خروفه وأطلقه، ثم أسرع راجعًا إلى بيته يبحث عنه في حظيرته.
وفي تلك الأثناء كان اللصوص قد استولوا على الخروف، وغادروا مسرورين!!!.
أرأيتم كيف صنع الإنصات إلى كثرة الباطل، نعم إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك.
هكذا يصنع الرأي العام، وهكذا تُقلب الحقائق وتُسلب العقول!، بكثرة التكرار، وتعدد الأصوات، وتكرار الأكاذيب، حتى تتحول في عقول السُذَّج من الناس إلى حقائق!.
فهلّا فهمنا لماذا جاء هذا القول الكريم في سورة الأنعام، لنفيق حتى لا نسير في ركاب القطعان ولا نغترّ بالكثرة فقد يسبق رأي رجل ألف رجل، لذا أعقب الله تعالى أمره لنبيّه بالمشاورة بقوله تعالى: “فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ” [آل عمران: 159]، فإنّه مما لا شك فيه أن سياسة القطيع مهلكة، لذا أمرنا ربنا أن نبتعد عن الزحام قليلًا ثم نتفكر فرادى أو مثاني، لا أكثر من ذلك، “قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا” [سبأ: 46].
ختامًا ما أريد قوله: لا تترك قناعتك وثقافتك نهبًا للصوص العقول، وسُرَّاق الفكر، أولئك الذين يكمنون لضحاياهم في ظلام الإعلام، أو عتمة وسائل التواصل، أو عبر غيوم الشائعات.
حصِّن وعيك، وفكّر بنفسك، ولا تجعل أحدًا يفكر عنك!. وإيّاك ثم إيّاك أن تغيب عنك قصة صاحب الخروف، فقد أخذوا خروفه منه بعد أن صوروه له في عقله كلبًا، فذهب الخروف من يده، بينما عشّش الكلب في عقله.
فالحرب بيننا وبين عدونا لا شك حرب وعيٍّ.
د. حسني ابوحبيب يكتب: ركاب القطعان