الدكتور حسنى ابوحبيب يكتب :رضا الناس غاية لا تدرك ورضا الله غاية لا تترك
تحدثت في مقال سابق عن رضا الله ورسوله والأسباب الموصلة لمن شاء الوصول إليه.وقد رأيت من الفائدة أن أتبعه بالتعريج على ذكر فئة من البشر يطلبون رضا الناس أكثر من رضا رب الناس ، ويلهثون وراء مرضاة عبيد مناكيد لا يملكون شيئا حتى قلوبهم ، فأردت أن أذكر نفسي وإياهم بأنه لا أحد يملك قلبه وبالتالي فلا حب ولا كره إلا ممن مفاتيح القلوب بيده ، قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﺇﺫا ﺃﺣﺐ ﻋﺒﺪا ﺩﻋﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻓﻘﺎﻝ: ﺇﻧﻲ ﺃﺣﺐ ﻓﻼﻧﺎ ﻓﺄﺣﺒﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻴﺤﺒﻪ ﺟﺒﺮﻳﻞ، ﺛﻢ ﻳﻨﺎﺩﻱ ﻓﻲ اﻟﺴﻤﺎء ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﺤﺐ ﻓﻼﻧﺎ ﻓﺄﺣﺒﻮﻩ ، ﻓﻴﺤﺒﻪ ﺃﻫﻞ اﻟﺴﻤﺎء ، ﻗﺎﻝ ﺛﻢ ﻳﻮﺿﻊ ﻟﻪ اﻟﻘﺒﻮﻝ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ، ﻭﺇﺫا ﺃﺑﻐﺾ ﻋﺒﺪا ﺩﻋﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﺇﻧﻲ ﺃﺑﻐﺾ ﻓﻼﻧﺎ ﻓﺄﺑﻐﻀﻪ ، ﻗﺎﻝ ﻓﻴﺒﻐﻀﻪ ﺟﺒﺮﻳﻞ ، ﺛﻢ ﻳﻨﺎﺩﻱ ﻓﻲ ﺃﻫﻞ اﻟﺴﻤﺎء ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﺒﻐﺾ ﻓﻼﻧﺎ ﻓﺄﺑﻐﻀﻮﻩ ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻴﺒﻐﻀﻮﻧﻪ، ﺛﻢ ﺗﻮﺿﻊ ﻟﻪ اﻟﺒﻐﻀﺎء ﻓﻲ اﻷﺭﺽ” (متفق عليه).
إيماننا بذلك نابع من تصديقنا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فهو القائل أيضاً: “قلوب العباد ﺑﻴﻦ ﺇﺻﺒﻌﻴﻦ ﻣﻦ ﺃﺻﺎﺑﻊ اﻟﻠﻪ ، ﻓﺈﺫا ﺃﺭاﺩ ﺃﻥ ﻳﻘﻠﺐ ﻗﻠﺐ ﻋﺒﺪ ﻗﻠﺒﻪ” (رواه الطبراني).
لذا فقد أتعب نفسه من انشغل برضا المخلوق عن رضا خالقه ، فكما قيل في الحكم: “رضا الناس غاية لا تدرك ، ورضا الله غاية لا تترك ، فاترك ما لا يدرك ، وأدرك ما لا يترك”.
هذا كلام رائع خرج من في رجل صالح أنطقته الحكمة وأثقلته التجارب ، يلفت به الأنظار ويوقظ من خلاله القلوب ، ويبين لنا أن رضا جميع الناس يُضني كل من يبحث عنه ، ويتعب كل من يهتم به ، وأنه غاية بعيدة المنال ، صعبة التحقيق ، وما ذاك إلا لأنهم جبلوا ﻋﻠﻰ ﺫﻡ ﺯﻣﺎﻧﻬﻢ ، ﻭﻗﻠﺔ اﻟﺮﺿﺎ ﻋﻦ ﺃﻫﻞ ﻋﺼﺮﻫﻢ ، قال تعالى: “ﻭﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻋﺒﺎﺩﻱ اﻟﺸﻜﻮﺭ” (سبأ: 13).
والذي يدفع الإنسان إلى الاهتمام برضا الناس جهله بنفسه وبالسبب الذي خلق من أجله ، ﻗﺎﻝ ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﺩﻳﻨﺎﺭ: ﻣﻦ ﻋﺮﻑ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻢ ﻳﻀﺮﻩ ﻗﻮﻝ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻴﻪ.
وكل من شغل نفسه بغيره فاته مطلوبه ، وكل من جعل رضا الناس غايته فقد مأموله ، لأنه رام مستحيلا.
في المقابل فإن رضا الله تعالى غاية لا تترك ، ولا ينبغي لأحد أن يغفل عنها ، فهي غاية الغايات ، من حصلها فقد حصل الخير كله ، وهي الأحق بالطلب والأجدر بالسعي ، “ﻭاﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﺃﺣﻖ ﺃﻥ يرضوه” (اﻟﺘﻮﺑﺔ: 62).
نعم مرضاته هي الأحق بالطلب ، ومن أخلص في طلبها وقدمها على ما سواها نالها ومعها رضا الناس ، ومن أغفلها طالباً رضى غيره سبحانه فاتته وما طلب.
وأسوأ أصناف البشر أولئك الذين يطلبون رضا الناس بغضب ربهم ، ويطمعون فيما عند العبد ويغفلون عما عند سيدهم ومولاهم ، ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ رضي الله عنها ، ﻗﺎﻟﺖ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: “ﻣﻦ اﻟﺘﻤﺲ ﺭﺿﻰ اﻟﻠﻪ ﺑﺴﺨﻂ اﻟﻨﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﺃﺭﺿﻰ اﻟﻨﺎﺱ ﻋﻨﻪ ، ﻭﻣﻦ اﻟﺘﻤﺲ رضا الناس ﺑﺴﺨﻂ اﻟﻠﻪ ﺳﺨﻂ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺃﺳﺨﻂ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻨﺎﺱ. (صحيح ابن حبان). وبلفظ آخر له: “ﻣﻦ ﺃﺭﺿﻰ اﻟﻠﻪ ﺑﺴﺨﻂ اﻟﻨﺎﺱ ﻛﻔﺎﻩ اﻟﻠﻪ الناس ، ﻭﻣﻦ ﺃﺳﺨﻂ اﻟﻠﻪ ﺑرضا الناس ﻭﻛﻠﻪ اﻟﻠﻪ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺎﺱ”.
وفي المعجم الكبير للطبراني: “ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﻣﻦ ﺃﺳﺨﻂ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ رضا الناس ﺳﺨﻂ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ، ﻭﺃﺳﺨﻂ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﺭﺿﺎﻩ ﻓﻲ ﺳﺨﻄﻪ ، ﻭﻣﻦ ﺃﺭﺿﻰ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺳﺨﻂ اﻟﻨﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﺃﺭﺿﻰ ﻋﻨﻪ ﻣﻦ ﺃﺳﺨﻄﻪ ﻓﻲ ﺭﺿﺎﻩ ﺣﺘﻰ ﻳﺰﻳﻨﻪ ﻭﻳﺰﻳﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﻭﻋﻤﻠﻪ ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻪ”.
لذا ربانا إسلامنا وعلمنا رسولنا قول الحق والتزام الصدق وتحري رضا الله في كل قول وفعل ، ووعدنا ربنا وهو صادق الوعد النصر والتأييد ، وعزته وجلاله ما خذلنا أبداً ما التزمنا ذلك ابتغاء مرضاته ، “ﻭﻟﻴﻨﺼﺮﻥ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ينصره”
(اﻟﺤﺞ: 40).
وكم من رجال قالوا الحق إيماناً بالله وخوفاً من عقابه في وجه أناس لهم من السلطة والنفوذ ما يحمل ضعاف الإيمان على نفاقهم وخداعهم ، فلما نطقوا بالحق ووعظوهم لله فتح الله لهم قلوبهم فزادوهم إجلالاً وإكراماً.
لمّا أراد معاوية بن أبي سفيان أن يستخلف يزيداً ابنه ، شاور الأحنف بن قيس ، فسكت الأحنف فلم يرد ، فاستنطقه معاوية ، فأجابه بقوله: يا أمير المؤمنين إنْ صدقناك أسخطناك ، وإن كذبناك أسخطنا الله ، وإن سخطك أهون من سخط الله علينا. فقال له معاوية: صدقت.
ﻭعندما ﻭﻟﻲ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﻫﺒﻴﺮﺓ اﻟﻔﺰاﺭﻱ اﻟﻌﺮاﻕ ليزيد ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻤﻠﻚ ، اﺳﺘﺪﻋﻰ اﻟﺤﺴﻦ اﻟﺒﺼﺮﻱ ﻭﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻴﺮﻳﻦ ﻭاﻟﺸﻌﺒﻲ ، فقال ﻟﻬﻢ: ﺇﻥ الكتب تأتيني من يزيد
ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ، ﻓﺈﻥ ﺃﻧﻔﺬتها ﻭاﻓﻘﺖ ﺳﺨﻂ اﻟﻠﻪ ، ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﺃﻧﻔﺬﻫﺎ ﺧﺸﻴﺖ ﻋﻠﻰ ﺩﻣﻲ ، ﻓﻤﺎ ﺗﺮﻭﻥ ؟.
ﻓﻘﺎﻝ اﺑﻦ ﺳﻴﺮﻳﻦ ﻭاﻟﺸﻌﺒﻲ ﻗﻮﻻً ﻓﻴﻪ ﺗﻘﻴﺔ.
ﻓﻘﺎﻝ اﺑﻦ ﻫﺒﻴﺮﺓ: ﻣﺎ ﺗﻘﻮﻝ ﻳﺎ ﺣﺴﻦ ؟.
ﻓﻘﺎﻝ له : ﻳﺎ اﺑﻦ ﻫﺒﻴﺮة خف الله في يزيد ، ﻭﻻ ﺗﺨﻒ ﻳﺰﻳﺪ ﻓﻲ اﻟﻠﻪ ، واعلم أﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﻤﻨﻌﻚ ﻣﻦ ﻳﺰﻳﺪ ، ﻭلا يمنعك ﻳﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ ، يا ابن هبيرة يوشك الله ﺃﻥ ﻳﺒﻌﺚ عليك ﻣﻠﻜﺎ ﻓﻴﺰﻳﻠﻚ ﻋﻦ ﺳﺮﻳﺮﻙ ﻭﻳﺨﺮﺟﻚ ﻣﻦ ﺳﻌﺔ ﻗﺼﺮﻙ ﺇﻟﻰ ﺿﻴﻖ ﻗﺒﺮﻙ ، حيث لا تجد فيه يزيد ولكن تجد فيه عملك الذي خالفت فيه رب يزيد ؛
ﻳﺎ ﺑﻦ ﻫﺒﻴﺮﺓ، ، إذا جاءك كتاب ﻳﺰﻳﺪ فأﻋﺮﺿﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ، ﻓﻤﺎ ﻭاﻓﻖ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﺄﻧﻔﺬﻩ ، ﻭﻣﺎ ﺧﺎﻟﻒ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻓﻼ ﺗﻨﻔﺬﻩ ؛ ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﺃﻭﻟﻰ ﺑﻚ ﻣﻦ ﻳﺰﻳﺪ ، ﻭﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﺃﻭﻟﻰ ﺑﻚ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ ، واعلم أنه ﻻ ﻃﺎﻋﺔ ﻟﻤﺨﻠﻮﻕ ﻓﻲ ﻣﻌﺼﻴﺔ اﻟﺨﺎﻟﻖ.
ﻓﻀﺮﺏ اﺑﻦ ﻫﺒﻴﺮﺓ ﺑﻴﺪﻩ ﻋﻠﻰ ﻛﺘﻒ اﻟﺤﺴﻦ ﻭﻗﺎﻝ: ﺻﺪقتني ﻭﺭﺏ اﻟﻜﻌﺒﺔ.
لكني أحب أن أوضح أمراً ربما يلتبس على بعض الناس ألا وهو: إن طلب رضا الناس أمر مهم طالما كان بحقه وبعيداً عن النفاق والمراءاة ، فالتودد إلى الناس أمر مطلوب شريطة ألا يؤدي إلى ضياع حق أو إقامة باطل ، من هنا ندب الله إليه وقرنه بطلب مرضاته ، وحث على التعاون عليه ، فقال: “وتعاونوا على البر والتقوى” (اﻟﻤﺎﺋﺪﺓ: 2).
ﻗﺎﻝ اﻟﻤﺎﻭﺭﺩﻱ: ﻧﺪﺏ اﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺇﻟﻰ اﻟﺘﻌﺎﻭﻥ ﺑﺎﻟﺒﺮ ﻭﻗﺮﻧﻪ ﺑﺎﻟﺘﻘﻮﻯ ﻟﻪ، ﻷﻥ ﻓﻲ اﻟﺘﻘﻮﻯ ﺭﺿﺎ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ، ﻭﻓﻲ اﻟﺒﺮ رضا الناس ، ﻭﻣﻦ ﺟﻤﻊ ﺑﻴﻦ ﺭﺿﺎ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ورضا الناس ﻓﻘﺪ ﺗﻤﺖ ﺳﻌﺎﺩﺗﻪ ﻭﻋﻤﺖ ﻧﻌﻤﺘﻪ.(تفسير القرطبي للآية).
وﻗﺪ ﻗﻴﻞ: ﻣﺎ ﻻ ﺗﺮﺿﺎﻩ ﻟﻨﻔﺴﻚ ﻻ ﺗﺼﻨﻌﻪ ﻟﻐﻴﺮﻙ ، ﻓﺈﻥ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ اﻟﻌﺪﻝ ، ﻭﻓﻲ اﻟﻌﺪﻝ ﺭﺿﺎ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﺭﺿﺎ اﻟﻨﺎﺱ.
لكن الأمر الذي لا يقبل أن يُطلب رضا الناس بسخط الله ، وأن يكون التودد إلى الناس سبيلاً إلى كتمان حق ، أو إظهار باطل ، فهذا هو الخسران المبين لأصحابه في الدارين.
وقد قرأنا سير الأولين فما رأينا أحداً عمل لله واشتغل بطلب مرضاته إلا ورفعه الله وأجلّه وأرضى عنه عباده ، وما رأينا أحداً نافق ودلّس في طلب رضا الناس إلا وأخزاه الله وأسخط عليه عباده ، وكان عاقبة أمره خسراً.
رزقنا الله وإياكم رضا من بيده الرضا ومن إذا رضي أرضى ، ومن لا رضا إلا برضاه ، فاللهم ارض عنا وأرضنا واجعلنا راضين مرضيين دائما أبدا يا خير معبود ويا أشكر رب ويا أرحم إله.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.