دين و دنيا

د . حسنى ابوحبيب يكتب : قصورا مطلة على الجنة

“وأن تعفوا أقرب للتقوى” (البقرة: 237).
اعلم يا رعاك الله أن العفو خلق كريم محفور في طوايا النفوس الكريمة ، يشرق أبداً في آفاقها ، ويصطع دائماً على صفحاتها ، وكلما تعرضت تلك النفوس للإساءة كلما ازداد إشراقه وصطعت صفحاته ، هذا من ذاك.

فكما أن المعادن النفيسة لا تستبين نفاستها ولا تظهر إلا في النار وكلما زادت حرارة النار كلما ظهر أصلها ، كذا تلك النفوس الكريمة.
ولم يكتف إسلامنا العظيم بالحث على العفو فقط بل حث أيضاً على الصفح معه وهو درجة أعلى وأسمى.

فإذا كان اﻟﻌﻔﻮ: ﺗﺮﻙ العقاب على الذنب. فإن اﻟﺼﻔﺢ: ترك للمؤاخذة عليه ، وﺇﺯاﻟﺔ لأثره ﻣﻦ اﻟﻨﻔﺲ. وكما خلق الله العفو خلق له أهلاً ، حببه إليهم وحبب إليهم فعاله ، حتى قال أحدهم: ﻟﻘﺪ ﺣﺒﺐ ﺇﻟﻲ اﻟﻌﻔﻮ ﺣﺘﻰ إﻧﻲ ﺃﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﻻ ﺃﺛﺎﺏ ﻋﻠﻴﻪ ، وﻟﻮ ﻋﻠﻢ ﺃﻫﻞ اﻟﺠﺮاﺋﻢ ﻟﺬﺗﻲ ﻓﻲ اﻟﻌﻮﻑ ﻻﺭﺗﻜﺒﻮﻫﺎ ، وﻟﻮ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﺎﺱ ﺣﺒﻲ ﻟﻠﻌﻔﻮ ﻟﻤﺎ تقربوا إلي إلا بالجنايات.

ﻭﻛﺎﻥ اﻷﺣﻨﻒ بن قيس ﺭﺣﻤﻪ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻛﺜﻴﺮ اﻟﻌﻔﻮ ﻭاﻟﺤﻠﻢ ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ: ﻣﺎ ﺁﺫاﻧﻲ ﺃﺣﺪ ﺇﻻ ﺃﺧﺬﺕ ﻓﻲ ﺃﻣﺮﻩ ﺑﺈﺣﺪﻯ ﺛﻼﺙ: ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻓﻮﻗﻲ ﻋﺮﻓﺖ ﻟﻪ ﻓﻀﻠﻪ ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻣﺜﻠﻲ ﺗﻔﻀﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﺩﻭﻧﻲ ﺃﻛﺮﻣﺖ ﻧﻔﺴﻲ ﻋﻨﻪ.

ولقد جعل الله للعافي عن الناس أجرين ، أجر في الدنيا ، وآخر في الآخرة.أما الذي في الدنيا فالسؤدد ، والعزة ، والمكانة في القلوب ، فإن من عفا ساد ومن حلم عظم ومن تجاوز امتلك قلوب الخلق ، قال صلى الله عليه وسلم: “…ﻭﻻ ﻋﻔﺎ ﺭﺟﻞ ﻋﻦ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﺇﻻ ﺯاﺩﻩ اﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ ﻋﺰا ، ﻓﺎﻋﻔﻮا ﻳﻌﺰﻛﻢ اﻟﻠﻪ…” ، أضف إلى ذلك سلامة الصدر وراحة البال وزيادة العمر ففي ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﻤﻨﺰﻟﺔ. ﺇﻥ ﻛﺜﺮﺓ اﻟﻌﻔﻮ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻓﻲ اﻟﻌﻤﺮ. ﻭﺃﺻﻠﻪ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: “ﻭﺃﻣﺎ ﻣﺎ ﻳﻨﻔﻊ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻴﻤﻜﺚ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ” ، إلى غير ذلك من أمور تضمن له العيش الهانئ والحياة الطيبة.

وأما الذي في الآخرة فيكفي العافي فخراً أن أجره على الله ، ﻗﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ اﻟﺤﺴﻦ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻧﺎﺩﻯ ﻣﻨﺎﺩ ، ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻟﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﺃﺟﺮ ﻓﻠﻴﻘﻢ ، ﻓﻼ ﻳﻘﻮﻡ ﺇﻻ اﻟﻌﺎﻓﻮﻥ ﻋﻦ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﺗﻼ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: “ﻓﻤﻦ ﻋﻔﺎ ﻭﺃﺻﻠﺢ ﻓﺄﺟﺮﻩ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ”.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ﺭﺃﻳﺖ ﻟﻴﻠﺔ ﺃﺳﺮﻱ ﺑﻲ ﻗﺼﻮﺭا ﻣﺴﺘﻮﻳﺔ ﻣﺸﺮﻓﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﺠﻨﺔ، ﻓﻘﻠﺖ: ﻳﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻟﻤﻦ ﻫﺬا؟ ﻓﻘﺎﻝ: ﻟﻠﻜﺎﻇﻤﻴﻦ اﻟﻐﻴﻆ ﻭاﻟﻌﺎﻓﻴﻦ ﻋﻦ اﻟﻨﺎﺱ ، والله يحب المحسنين” (كنز العمال).

ومن عفا عفا الله عنه ، قال تعالى: “وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم” ، ومن ذكر الله عندما يغضب فعفا عن المسيء ذكره الله عند غضبه فعفا عنه ، جاء في التوراة: “عبدي اذكرني إذا غضبتَ ، أذكرك إذا غضبتُ ، فلا أمحقك فيمن أمحق ، وارض بنصرتي لك ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك.

فاعف عباد الله ليعفو الله عنكم ، واكظموا غيظكم ليملأ الله قلوبكم أمناً وإيماناً ، وأحسنوا من أجل ربكم ليديم عليكم إحسانه ، فقد قال نبيكم: “…ﻣﻦ ﻛﻒ ﻏﻀﺒﻪ ﺳﺘﺮ اﻟﻠﻪ ﻋﻮﺭﺗﻪ ، ﻭﻣﻦ ﻛﻈﻢ ﻏﻴﻈﻪ ، ﻭﻟﻮ ﺷﺎء ﺃﻥ ﻳﻤﻀﻴﻪ ﺃﻣﻀﺎﻩ ﻣﻸ اﻟﻠﻪ ﻗﻠﺒﻪ ﺭﺟﺎء ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ..” (المعجم الكبير للطبراني).

وذاكروا وتذكروا قول ربكم: “وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين” (آل عمران: 133 ، 134).

جعلنا الله وإياكم ممن قدر فعفا ، ومُكّن له في الأرض فكان كظم الغيظ والعفو والإحسان من شيمه.وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى