منوعات

سحر النحاس تكتب : المانيكان

لم يكن من المعقول أن يغادر باريس عاصمة النور- بعد ان أنهى جولته المكوكية في أرقى بيوت الأزياء حاملا من كل بستان زهرة ومن كل بيـت أزياءقطعة ملابس أجمل من مثيلاتها- من دون أن يصطحبني معه، وقد أسره جمالي وشعري المسترسل على ظهري، وعيناي الخضروان، وشفتاي تشبهان حبات الكرز الشهية اللامعة، ناهيك عن جسدي المرمري، ليس أقل من أن أكون بصحبته عند مغادرته وقد هام بى عشقا،لأكون في مقدمة عارضات اقتناها حديثا؛ ليفتح بها محل أزيائه الأنيق القابع في أرقى الأحياء، والذي تتهافت عليه سيدات المجتمع المخملي وصاحبات الذوق الرفيع.

من فرط إعجابه بي خصص لي مكانا متميزا فيالصدارة، ووضع الإضاءات المتحركة حولي؛فكنت كعروس متوجة تغار منها كل العارضات الآخريات، وبالطبع كان من نصيبي أغلى وأرقى ثوب زفاف كان قد ابتاعه من باريس،ليفتتح به معرضه فذاع صيته وصيتي.

لا أخفيكم سرا عن كم الغيرة والحسد اللذينأصاباني من بقية زميلاتي، التيلا تماثلني حظا وجمالا، فمنها من كانت بلا رأس.. أو رأس بلا معالم.. وأحيانابلا نصف أسفل! كن يتهامسن ويتلمزن كمدا فيما بينهن، فنحن وإن كنا مانيكانات إلا ان بيننا لغة مشتركة، ولنا حياة ولغه لا يفهمها إلا عشاقها، فكم من نحات وقع في غرام منحوتته، وكم من رسام أُغرم برسوماته،وكم من عاشق للآثار انتابته لوثةأو أصابته لعنتها جراء انبهاره بروعة خلقتها.

ظل ذلك الفتى الأسمر ذو الثالثة والعشرين ربيعا، كلما غدا أو راح تتسمر قدماه أمام فاترينة المحل فاغرا فاهه،يُمنِّى نفسه بي أنا فتاة أحلامه،ويشعر أنه غارق في الجنةوأنا فتاة الحور بين أحضانه،حتى يأتي العاملون بالمحل ويجبرونه على المغادرة ـ وإلا استدعوا له الشرطة متهمينه بالسرقة أو التخطيط لها، فالاشتباه من وقفته قوي بأنه لص يدرس المكان لكي يسرقه، فأودعه بغمزة من عيني وإبتسامة خفية؛ فيزداد تعلقا بي، ويخبرهم بأننى أبادله المحبة وها أنا أغمز له بعيني، فيتهمونه بالجنون،يخاف قليلا ويمضي مسرعا قبل أن تأتى سيارة المشفي، ويتم اصطحابه وينتهي به الحال بمصحة للمجانين.

أزداد حنقا، وبالأخص من تلك العربيدة ذات الشعر الأحمر المستعار والبشرة الخمرية، وهى تصر على أنها أجمل مني، وأنها التي يجب أن يتعلق بها هذا الشاب، وأنها تنتوي التخلص مني نهائيا لتقتنص مني صدارة فاترينة العرض الرئيسية التى أتربع على عرشها بجدارة،فأكيدها بأن ذلك الفتى لم يكن هو الوحيد الذيأصابته سهام حبي،فالسيد عدنان المواردي صاحب أتليه الأزياء هو الآخر حرص على وضع مكتبه بجواري؛ حتى يتسنى له التأمل وإطالة النظرفي مفاتني وأنا في أبهى صورة أرتدي أفخر الثياب والحلي، مما كان سببا أيضا في جذب أنظار الفتيات والسيدات اللاتى كن يتهافتن على شراء ثيابي وحليي، وبالطبع ملء جيوب السيد عدنان، وزيادة صيته وشهرته بين سيدات المجتمع الراقي، مالم يعرفه ذلك الشاب الأسمر ولا يعرفه أحد آخر أننيأنا “إميلي” وصديقتي اللدود السمراء “باميلا” مزودتان بشرائح وذاكرة اصطناعية تجعلنا نبدو كالآدميتين، نستطيع تحريك أعيننا فنغمز بها، ونضم شفاهنا،أونرفع أيدينا ملوحتين،

كما أننا مزودتان بمعلومات عن طبيعة البشروشتى مجالات العلم والتكنولوجيا، وملحق بناقاموس لغوي، ولدينا ذكاء اصطناعي يمكننا من التفكيروالتصرف، فقد اشترانا السيد عدنان من مزاد عالمي بعد أن أفلست الشركة المصنعة لنا ومات صانعنا بجرعة زائدة من المخدرات وهكذا مات سرنا معه ، وتم إعدادنا تقنيا لإحدى الجهات السيادية، وبقينا نحن الاثنتين مجرد دميتين للعرض، كنت أرقب رواد الأتليه وأتبادل النظرات مع باميلا،فلاحظنا تردد بعض النساء بشكل دوري، وقد أتاح لي موقعي بالقرب من مكتب السيد عدنان متابعة أحاديثه مع زبائنه،فكان حديثا لم يقتصر على البيع والشراء بل شمل عقد صفقات مشبوهة ومواعدة بعض النساء للرجال، كما أن غرف تجربة الملابس كانت مرصودة بكاميرات مراقبة، هو فقط من كان يتابع السيدات والفتيات، ويقوم بتسجيل أشرطه لهن، ثم يعاود المتاجرة بها لمن يشترى دون علم صاحباتها، ولأننا كنا نتواصل أنا وباميلا في الخفاء، بعد أن يغلق المتجر أبوابه، عبر شبكة” نت وورك” خاصة بنا” ونستمد طاقتنا من خلايا تشحن ذاتيا بمجرد سقوط الضوء علينا،
اتفقنا على تعطيل الكاميرات ومهاجمة هذا الرجل الذي يبدو في ظاهره الأدب الجم، بينما هو خبيث قذر، وبالرغم من أنه لاعلاقة لنا بما يحدث، ولم نحاول أن نثير أي شكوك حولنا بين عاملات المتجر اللائي كن يحرصن على تنظيف بشرتنا وشعرنا من الأتربة
والغباروإضافة لمسات من المكياج والماسكرا وطلاء الأظافر، وتغيير أزيائنا وتطعيمنا بالحلي الفاخرة، التي يحرص السيدعدنان نفسهعلى وضعها على أجسادنا، ولم يمنعه ذلك من تحسسنا بيده القذرة تسبقه شهوته، لم يقتصر الأمر عليه فحتى بعض زبائنه من الرجال والنساء على حد سواء لا يتورع عن ممارسة ذلك اللمس المشين، على اعتبار أننا دمى لانتشعر، ويسترقون النظرحولهم ليتأكدوا أن لا أحد يراهم، تبا لهؤلاء الآدميين يتخفون وراء ملابسهم ومظهرهم الثري وهم عرايا من الأخلاق والإنسانية، حتى الدمي لم تسلم من نفوسهم المريضة،ورغباتهم العفنة وعالمهم الأكثر عفونة، عقدنا العزم أنا وباميلا على التخلص من ذلك الرجل المقزز المثير للاشمئزاز، فهو حيوان بشرى خائن يخرب البيوت وينتهك الأعراض، ويتعيش من أجساد الساقطات،ورغم الغيرة الخفية التي كانت بيني وبين باميلا إلا أننا قررناضرورة أن نكون معا فى عالم نحن الوحيدتان اللتان فيه من نفس الطبيعة والتكوين، فلا نحن مجرد أصنام بلاستيكية لا حياة فيها، ولا نحن من دم ولحم كهؤلاء البشريين، فهؤلاء للأسف ليسوا أفضل المخلوقات كما هو مدمج بأدمغتنا الألكترونية، انتهينا إلى ضرورة أن ننتقم منه؛ أرسلت باميلا لحاسوبه” فيروسا” أطاح بما عليه من صور ومعلومات، جن جنون الرجل وهو لا يدرى ما الذيأصاب أجهزته وكاميراته اللعينة، وإمعانا في الانتقام منه،وأرسلت عبر حاسوبه لأقرب مركز شرطيتقريرا مفصلا بتحركاته وصفقاته، وأرقام هواتف المتعاملين معه؛ فداهمته الشرطة قبضت على أعضاء شبكته، افُتضح أمره

زر الذهاب إلى الأعلى