دين و دنيا

د. حسني ابوحبيب يكتب: سرُّ الوضوء ونوره

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ” (المائدة: 6).

هذا النداء العظيم من الرب الأعظم لعباده المؤمنين يدلُّهم من خلاله على مفتاح الصلاة وسبب قبولها ، ويشرح لهم كيفيته وترتيبه ، وهو سر الصلاة كما هو مفتاحها ، وباب قبولها كما هو شرط صحتها ، فمن أحسنه أحسنها ، ومن أتمه أتمها ، وله عليه من الأجر مثل ما له عليها ، فهو ذلك النور الذي يسعى به المؤمن إلى النور ليكون له نصيباً من نور السماوات والأرض سبحانه.

قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الوضوء على الوضوء نور” ، كما قال: “… والصلاة نور” (رواه مسلم) ، ومن هنا كان الوضوء مشتقاً من الوضاءة ، يظهر أثره على أعضاء صاحبه ، كما يظهر أثر الصلاة على قلب صاحبها ، ومن ثَمَّ كان العارفون من سلفنا يشاهدون الحدث على الأعضاء ويُرتبون عليه مقتضاه.

وبنور ذلك الوضوء يُعرف المؤمنون يوم القيامة ، حيث يأتون تتلألأ منهم الأنوار ، باديةً على أعضائهم من آثاره ، فكما كان لهم نوراً في الدنيا يكون كذلك لهم في الآخرة ، قيل لرسول صلى الله عليه وسلم: “كيف تعرف أمتك من بين الأمم ، من نوح إلى أمتك ؟ فقال: غرٌّ محجلون من أثر الوضوء ، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم” (سنن ابن ماجة). لذا حثّ صلى الله عليه وسلم أمته على أن يطيلوا تلك الغرّة متى استطاعوا ، روى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أمتي يدعون يوم القيامة غرّاً محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل”.

لذا ينبغي على من أراد الوضوء أن يستجمع له قلبه ، وليُقبل عليه خاشعاً متضرعاً ، وليعلم أنه عبادة كما الصلاة ، وليكن على يقين أن الماء الذي يغسل به أعضاءه ما هو إلا نور يغسل به قلبه ، ويُجلي به بصيرته ، ويُقوي به بدنه ، فيقوم به وكأنه ينظر إلى ذنوبه تتناثر عن أعضائه مع قطرات الماء المتناثرة عنها ، وليستحضر في ذلك قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيًاً من الذنوب ” (صحيح مسلم).

ويكفي من أراد الوضوء أن يعلم أن بإسباغه لوضوئه تفتح له أبواب الجنة الثمانية ، كل باب منها يدعوه إليه ليلج الجنة منه لينال به الشرف على غيره من الأبواب ، يكفيه في ذلك أن يختمه بالشهادتين ، قال صلى الله عليه وسلم: “ما مِنْكُمْ مِنْ أَحدٍ يتوضَّأُ فَيُبْلِغُ أَوفَيُسْبِغُ الوُضُوءَ ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهدُ أَنْ لا إِله إِلا اللَّه وحْدَه لا شَريكَ لهُ، وأَشْهدُ أَنَّ مُحمَّدًا عبْدُهُ وَرسُولُه، إِلاَّ فُتِحَت لَهُ أَبْوابُ الجنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّها شاءَ” رواه مسلم.

هذا مدعاة للمؤمن أن يتوضأ كلما انتقض وضوءه ، وكلما همّ على فعلٍ أهمه ، بل مدعاة لأن يُجدد وضوءه كلما أراد الخروج من بيته ليواجه الحياة وأحداثها بقلبٍ مملوءٍ بهذه المعاني النورانية ، وليستمد من ذلك الوضوء حياةً ونوراً يمشي به في الناس ليكون على بصيرة من أمره ، فلا ينخدع لأحد كما لا يُخدع بأحد ، “أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا” (الأنعام: 122). ومن هذا النور المستمد من النور الأعظم تتكون فراسة المؤمن التي بها يرى ويسمع ما لا يراه أو يسمعه غيره ، قال صلى الله عليه وسلم: “اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله” (سنن الترمذي).

أما أولئك الذين يتوضأون وهم غافلون ، لا يعرفون حقيقة العبادة التي بها يقومون ، ربما أسقط وضوؤهم عنهم الفرض ، لكن لم يكن لهم به نوراً في الأرض أو يوم العرض.

لذا على كل من أراد أن يكون له بوضوئه نوراً ، فعليه أن يستشعر تلك المعاني العظيمة ، وليقبل على وضوئه إقباله على صلاته ، وليدعو الله في بدايته ونهايته أن يجعله من التوابين المتطهرين ، وألا ينشغل بشيء عنه ، كما عليه ألا يُسرف فيه ، لينال بركته ونوره ، ويشعر بلذّته وحلاوته.
وأختم بالتضرع لرب الأرباب أن يجعلنا من التوابين المتطهرين.

زر الذهاب إلى الأعلى