دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب : الخيبة ﺛﻤﺮﺓ لشجرتين

قال تعالى “وقد خاب من افترى” (طه: 61):يقول أبو هلال العسكري في كتابه الفروق اللغوية: اﻟﺨﻴﺒﺔ لا ﺗﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﺑﻌﺪ أﻣﻞ لأنها اﻣﺘﻨﺎﻉ ﻧﻴﻞ ﻣﺎ أمّل.

وهي: اﻟﺤﺮﻣﺎﻥ ﻭاﻟﺨﺴﺮاﻥ؛ وﺣﺮﻣﺎﻥ اﻟﺠﺪ. ﻭﻓﻲ اﻟﻤﺜﻞ: اﻟﻬﻴﺒﺔ ﺧﻴﺒﺔ ؛ ويقال للخائب الخاسر: ﺳﻌﻴﻪ ﻓﻲ ﺧﻴﺎﺏ اﺑﻦ ﻫﻴﺎﺏ. ﺃﻱ: ﻓﻲ ﺧﺴﺎﺭ وبوار ، ﻭاﻟﺨﻴﺎﺏ: اﻟﻘﺪﺡ اﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻮﺭﻱ ؛ ومنه قول الشاعر:
اﺳﻜﺖ ﻭﻻ ﺗﻨﻄﻖ ﻓﺄﻧﺖ ﺧﻴﺎﺏ * ﻛﻠﻚ ﺫﻭ ﻋﻴﺐ ﻭﺃﻧﺖ ﻋﻴﺎﺏ. (انظر لسان العرب).

وتقال لمن ﺣﺮﻡ ﻭﻣﻨﻊ ﻭﻟﻢ ﻳﻨﻞ ﻣﺎ ﻃﻠﺐ. (المعجم الوسيط) وهي ﻧﺘﻴﺠﺔ لمقدمتين: اﻟﻜﺴﻞ ﻭاﻟﻔﺸﻞ، ﻭﺛﻤﺮﺓ لشجرتين: اﻟﻀﺠﺮ ﻭاﻟﻤﻠﻞ.
لذا ﻗﻴﻞ في الخائب: ﺷﻌﺎﺭﻩ اﻟﻜﺴﻞ ﻭﺩﺛﺎﺭﻩ اﻟﺘﺴﻮﻳﻒ ﻭاﻟﻌﻠﻞ.
ولا شك أن اﻟﻜﺴﻞ ﺑﺎﺏ اﻟﺨﺼﺎﺻﺔ ومفتاح الفقر ورسول الخيبة وأخو الهزيمة.والافتراء هو: اختلاق الكذب ، وأقبحه ما كان على الله أو على رسله أو على ورثتهم…

وهو أحد آفات اللسان مع الغيبة والنميمة والكذب والبهتان والإفك. وكلها صفات مرذولة وأعمال مذمومة.
وقد توعد الله تعالى في كتابه العزيز أربعة أصناف من البشر بالخيبة في الدنيا قبل الآخرة:

أولهم: فئة ضلت وأضلت وعتت وتجبرت ، واستفتحت وتطاولت على رسل الله تعالى والصالحين من عباده والذين ساروا في ركابهم وورثوا دعوتهم ، قال تعالى: “وخاب كل جبار عنيد” (إبراهيم: 15).
ثانيهم: ذلك الصنف الذي نحن بصدد الحديث عنه وهم الذين تجرأوا فاختلقوا الكذب على الله وعباده.

ثالثهم: تلك الطعمة من الأناسي التي غرتها دنياها وغرها بالله الغرور فتطاولت على خلق الله فظلمتهم وبغت عليهم بالقول والفعل ، قال تعالى: “وقد خاب من حمل ظلماً” (طه: 111).

أما رابعهم: فهم أولئك الذين أغووا نفوسهم وأبوا تطهيرها وتزكيتها ، قال تعالى: “وقد خاب من دساها” (الشمس: 10).

لا ريب أن المفتري خائب خاسر ، وما ذاك إلا لأنه ينشغل بالكذب عن الصدق ، وبالكسل عن العمل وباللهو عن الجد ، ومن كانت هذه صفاته كثرت هنٌاته ، ومن كثرة هنٌاته كثر خطؤه ، ومن كثر خطؤه خاب فأله.

والمفترون مبتلى بهم صالحوا كل زمان ومكان ، ونجاة الصالحين من ألسنتهم جد عسير ، فقلما نجى منهم صالح ، بل إن منهم من افترى على الله ورمى كتابه بالكذب ، فرد عليهم بنفسه سبحانه ، “وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين” (يونس: 37).

وكذا رسل الله صلوات الله عليهم أجمعين ، فما من رسول دعا قومه إلى الحق وأتاهم بالوحي إلا افتروا عليه ورموه بالكذب وقالوا لوحي الله لما جاءهم به تلك الكلمة التي دَوّنها الله في كتابه في أكثر من موضع: “افتراه”.

ولقد شاء لطف الله تعالى بعباده وحكمته أن حكم على كل مفترٍ بخيبة المسعى وسوء المنقلب ، حتى أصبح ذلك لازمة من لوازمهم وصفة من صفاتهم ، فهم يُبيّتون بليل والله مُبطل ما بيّتوه ، وربما أعلنوا الطاعة وأضمروا العصيان ، “ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا” (النساء: 81).

ومن صفاتهم أنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله مع أنه سبحانه محيط بهم ، مطلع عليهم ، “يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً” (النساء: 108).

ومن أفرى الفرى أن ينقل المرء كلاماً لم يسمعه ، أو يشهد على ما لم يشهده ، قال صلى الله عليه وسلم: إن ﻣﻦ ﺃﻓﺮﻯ اﻟﻔﺮﻯ ﺃﻥ ﻳُﺮﻱ اﻟﺮﺟﻞ ﻋﻴﻨﻴﻪ ﻣﺎ ﻟﻢ ﺗﺮ” (صحيح البخاري).

وشواهد التواريخ ودلائل الأزمنة وما رأيناه كل ذلك يشهد بصدق قوله تعالى: “وقد خاب من افترى”.فما ذكر التاريخ ولا حفظ الزمان وما رأينا سير المفترين إلا مقرونة بالخيبة في الدنيا والخسارة في الآخرة ، “قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون” (يونس: 69).

وحتما سيلاقون افتراءهم وسيحملوه يوم القيامة ويسألون عنه ، “وليُحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليُسئلن يوم القيامة عمّا كانوا يفترون” (العنكبوت: 13).

ولن ينفعهم افتراؤهم بل سيضل عنهم ويضلون عنه عندما يُطالبون بتقديم البراهين على ما افتروه ، “فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون” (القصص: 75).

نسأل الله تعالى أن يجنبنا الافتراء وأن يحفظنا من المفترين وأن يجري على ألسنتنا ما يرضيه عنا ، إنه نعم المولى ونعم النصير.

زر الذهاب إلى الأعلى