دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب : دلالات وغوايات فماظنكم برب العالمين

قال تعالى “فما ظنكم برب العالمين” (الصافات: 87).

كثيرون هم المنشغلون عن ربهم المعرضون عنه ، مع أن جميع ما في الكون يدلهم عليه ويأخذهم أخذاً إليه ، ومن العجيب أننا نراهم كلما كثرت لهم الدلالات زادت منهم الغوايات ، وكلما كثر فيهم المذكٌرون زاد منهم المعرضون ، وكأنها سنة الله تعالى فيهم ، “بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون” (المؤمنون: 71).

وهذا القول الكريم قيل على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام لقومه بعد أن أعيته سبل هدايتهم ، وأدهشته جرأتهم على ربهم ، فقال لهم: فما ظنكم برب العالمين إن لقيتموه وأنتم على كفركم به ما تظنون أنه فاعل بكم ؟!!!.

كُثُر هم من عبدوه وما عرفوه ، وتعاملوا مع غيره وهم يظنون أنهم يتعاملون معه ، وعملوا لغيره وما عملوا له ، وزعموا أنهم آمنوا وهم أكفر الناس به ، يقصدون غيره ولا يقصدوه ، يطرقون جميع الأبواب إلا بابه ، وينتظرون الفرج والنصر من كل الخلق إلا منه ، لهؤلاء وأمثالهم نردد ذلك القول الكريم: “فما ظنكم برب العالمين”.

آفة إيمان الكثيرين منا أنهم آمنوا بإله ما عرفوه ولا كلفوا أنفسهم بالبحث عنه ، ولا تأملوا آياته ، ولا نظروا في ملكوته ، فهو أهون في نفوسهم من أن يبحثوا عنه أويقراوا له ، فغاب عنهم هدفهم وهم يتوهمون أنهم وجدوه ، وضلوا طريقهم وهم على الحقيقة فقدوه ، فدعوا من جهلوه وقصدوا من لم يعرفوه ، فلما غاب عنهم غيبهم عنه ، “نسوا الله فنسيهم” (التوبة: 67) بل وغيبهم عن إنفسهم ، “نسوا الله فأنساهم أنفسهم” (الحشر: 19).

إذا أصبح هذا إيمان الكثيرين ممن يُناط بهم دعوة غيرهم إلى ربهم ، فما ظنك بالمدعوين إذا كان داعيهم لا يعرف من يدعو له ولا يقدره حق قدره ، لا شك يصبح حالهم كأعمى يقود عمياناً وأبكم يدعو صمٌاً ، “مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون” (البقرة: 17 ، 18).

“فما ظنكم برب العالمين” كلمة يجب علينا أن نرددها ونقولها لكل متجبر ظلم وعتى ، وتجبر وتكبر ، نقولها لغنيٍّ يطمع في قوت فقير ، ولقويٌ يفتري على ضعيف ، نقولها لمن أشعلوا الحروب وزكوا الفتن ، فخربوا العامر وروعوا الآمن ، ونشروا الفساد وأرهقوا العباد ، ودنسوا الأرض وعطٌلوا الفرض ، نقولها لمن يتاجرون بكل شيء حتى بالتدين الكاذب والقيم الزائفة ، نقولها لكل من غرته قوته واستكثرها.

“فما ظنكم برب العالمين” في حين أنه لو علم الخلق حقاً خالقهم ومدى حبه لهم وإشفاقه عليهم ، ما عصوه ولا غفلوا عنه ، ﺃﻭﺣﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺇﻟﻰ ﺩاﻭﺩ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﻟﻮ ﻳﻌﻠﻢ اﻟﻤﺪﺑﺮﻭﻥ ﻋﻨﻲ ﻛﻴﻒ اﻧﺘﻈﺎﺭﻱ ﻟﻬﻢ ﻭﺭﻓﻘﻲ ﺑﻬﻢ ﻭﺷﻮﻗﻲ ﺇﻟﻰ ﺗﺮﻙ ﻣﻌﺎﺻﻴﻬﻢ ، ﻟﻤﺎﺗﻮا ﺷﻮﻗﺎ إلي ﻭاﻧﻘﻄﻌﺖ ﺃﻭﺻﺎﻟﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﺤﺒﺘﻲ ، ﻳﺎ ﺩاﻭﺩ ﻫﺬﻩ ﺇﺭاﺩﺗﻲ ﻓﻲ اﻟﻤﺪﺑﺮﻳﻦ ﻋﻨﻲ ﻓﻜﻴﻒ ﺇﺭاﺩﺗﻲ ﻓﻲ اﻟﻤﻘﺒﻠﻴﻦ إلي.

“فما ظنكم برب العالمين” هناك صنف أحبوه لجنته وخافوه لناره ولولا جنته وناره ما خافوه ولا أحبوه ، ولعصوه وما أطاعوه ، كثيرا ما طلبو منه ولكن أبداً ما دعوه ، بينما هناك وفد أحبوه لذاته ، وعبدوه حبٌاً وتقرباً ، فهم منشغلون به عن سائر مخلوقيه جنة ونارا ، حتى قيل لأحدهم لم لا تكثر من الذكر فأجاب خشية أن يشغلني عن المذكور ، ولله در رابعة العدوية إذ تقول:

ﻛﻠﻬﻢ ﻳﻌﺒﺪﻭﻥ ﻣﻦ ﺧﻮﻑ ﻧﺎﺭ * ﻭﻳﺮﻭﻥ اﻟﻨﺠﺎﺓ ﺣﻈﺎ جيلا
ﺃﻭ ﻷﻥ ﻳﺴﻜﻨﻮا اﻟﺠﻨﺎﻥ ﻓﻴﺤﻈﻮا * ﺑﻘﺼﻮﺭ ﻭﻳﺸﺮﺑﻮا ﺳﻠﺴﺒﻴﻼ
ﻟﻴﺲ ﻟﻲ ﻓﻲ اﻟﺠﻨﺎﻥ ﻭاﻟﻨﺎﺭ ﺣﻆ * ﺃﻧﺎ ﻻ ﺃﺑﺘﻐﻲ ﺳﻮاﻙ ﺑﺪﻳﻼ.

كان ذو اﻟﻨﻮﻥ المصري يوماً جالساً ﻭﺣﻮﻟﻪ ﻧﺎﺱ، ﻭﻫﻮ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻠﻴﻬﻢ ، ﻭاﻟﻨﺎﺱ ﻳﺒﻜﻮﻥ ، ﻭﺷﺎﺏ ﻳﻀﺤﻚ. ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺫﻭ اﻟﻨﻮﻥ: ﻣﺎ ﻟﻚ ﺃﻳﻬﺎ اﻟﺸﺎﺏ ؟ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﺒﻜﻮﻥ ﻭﺃﻧﺖ ﺗﻀﺤﻚ. ﻓﺄﻧﺸﺄ ﻳﻘﻮﻝ:

ﻛﻠﻬﻢ ﻳﻌﺒﺪﻭﻥ ﻣﻦ ﺧﻮﻑ ﻧﺎﺭ * ﻭﻳﺮﻭﻥ اﻟﻨﺠﺎﺓ ﺣﻈﺎ ﺟﺰﻳﻼ
ﻟﻴﺲ ﻟﻲ ﻓﻲ اﻟﺠﻨﺎﻥ ﻭاﻟﻨﺎﺭ ﺭﺃﻱ * ﺃﻧﺎ ﻻ ﺃﺑﺘﻐﻲ ﺑﺤﺒﻲ ﺑﺪﻳﻼ

ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻪ: ﻓﺈﺫا ﻃﺮﺩﻙ ﻓﻤﺎﺫا ﺗﻔﻌﻞ؟ ﻓﺄﻧﺸﺄ ﻳﻘﻮﻝ:

ﻓﺈﺫا ﻟﻢ ﺃﺟﺪ ﻣﻦ اﻟﺤﺐ ﻭﺻﻼ * ﺭﻣﺖ ﻓﻲ اﻟﻨﺎﺭ ﻣﻨﺰﻻ ﻭﻣﻘﻴﻼ
ﺛﻢ ﺃﺯﻋﺠﺖ ﺃﻫﻠﻬﺎ ﺑﺒﻜﺎﺋﻲ * ﺑﻜﺮﺓ ﻓﻲ ﺿﺮاﻣﻬﺎ ﻭﺃﺻﻴﻼ
ﻣﻌﺸﺮ اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ ﻧﻮﺣﻮا ﻋﻠﻲ * ﺃﻧﺎ ﻋﺒﺪ ﺃﺣﺒﺒﺖ ﻣﻮﻟﻰ ﺟﻠﻴﻼ
ﻟﻢ ﺃﻛﻦ ﻓﻲ اﻟﺬﻱ اﺩﻋﻴﺖ ﻣﺤﻘﺎ * ﻓﺠﺰاﻧﻲ ﺑﻪ اﻟﻌﺬاﺏ اﻟﻄﻮﻳﻼ

“فما ظنكم برب العالمين” ذلك الوفد أحسنوا الظن بربهم بعد إحسانهم العمل ، فتجلٌى عليهم بحبه وقربه ، فأزال همومهم ، وكشف كروبهم ، فصاروا لا يرون إلا إياه ، وعمٌروا أوقاتهم بنجواه ، وهان عليهم كل شيء إلا رضاه ، فلم يطلبوا جنة ولا تعوذوا من نار بقدر ما طلبوه وتعوذوا من بُعده ، فأعزهم وأخدمهم خير خلقه ، ﺑﻜﻰ ﺷﻌﻴﺐ _عليه السلام_ ﺣﺘﻰ ﻋﻤﻲ ﻓﺮﺩ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺑﺼﺮﻩ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ ﺑﻜﻰ ﺣﺘﻰ ﻋﻤﻲ، ﻓﺮﺩ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺑﺼﺮﻩ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ ﺑﻜﻰ ﺣﺘﻰ ﻋﻤﻰ، ﻓﺄﻭﺣﻰ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺇﻟﻴﻪ: ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻫﺬا اﻟﺒﻜﺎء ﻷﺟﻞ اﻟﺠﻨﺔ ﻓﻘﺪ ﺃﺑﺤﺘﻬﺎ ﻟﻚ ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻷﺟﻞ اﻟﻨﺎﺭ ﻓﻘﺪ ﺃﺟﺮﺗﻚ ﻣﻨﻬﺎ. ﻓﻘﺎﻝ: ﻻ ﺑﻞ ﺷﻮﻗﺎ ﺇﻟﻴﻚ ﻓﺄﻭﺣﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺇﻟﻴﻪ ﻷﺟﻞ ﺫﻟﻚ ﺃﺧﺪﻣﺘﻚ ﻧﺒﻴﻲ ﻭﻛﻠﻴﻤﻲ ﻋﺸﺮ ﺳﻨﻴﻦ.

ولله در الشبلي إذ يقول:

ﻋﺠﺒﺖ ﻟﻤﻦ ﻳﻘﻮﻝ ﺫﻛﺮﺕ ﺇﻟﻔﻲ * ﻭﻫﻞ ﺃﻧﺴﻰ ﻓﺄﺫﻛﺮ ﻣﺎ ﻧﺴﻴﺖ
ﺃﻣﻮﺕ ﺇﺫا ﺫﻛﺮﺗﻚ ﺛﻢ ﺃﺣﻴﺎ * ﻭﻟﻮﻻ ﺣﺴﻦ ﻇﻨﻲ ﻣﺎ ﺣﻴﻴﺖ
ﻓﺄﺣﻴﺎ ﺑﺎﻟﻤﻨﻰ ﻭﺃﻣﻮﺕ ﺷﻮﻗﺎ * ﻓﻜﻢ ﺃﺣﻴﺎ ﻋﻠﻴﻚ ﻭﻛﻢ ﺃﻣﻮﺕ
ﺷﺮﺑﺖ اﻟﺤﺐ ﻛﺄﺳﺎ ﺑﻌﺪ ﻛﺄﺱ * ﻓﻤﺎ ﻧﻔﺪ اﻟﺸﺮﺏ ﻭﻣﺎ ﺭﻭﻳﺖ
ﻓﻠﻴﺖ ﺧﻴﺎﻟﻪ ﻧﺼﺐ ﻟﻌﻴﻨﻲ * ﻓﺈﻥ ﻗﺼﺮﺕ ﻓﻲ ﻧﻈﺮﻱ ﻋﻤﻴﺖ

“فما ظنكم برب العالمين” فما ظنكم بإله فلق وخلق ، وأمد ورزق ، وحفظ وصان ، وغفر وستر ، إله توالت علينا نعمه ليل نهار ، يعطي بغير حساب ، ورزقه ما له من نفاد ، لا يغيب شيء عنه ، ولا يهرب أحد منه ، معطي مانع ، خافض رافع ، أما يستحق أن نعبده وان نشكره على أن جعلنا عباده.

“فما ظنكم برب العالمين” اللهم لا هادي لنا إلا أنت فدلنا عليك كي ندل خلقك عليك ، وعرفنا بك كي نعرف خلقك بك ، واهدنا واخد بنا واجعلنا هداة مهديين برحمتك وتوفيقك يا رب العالمين.

هذا وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى