طارق الصاوي يكتب : دروس الهجرة تعليم وعبرة
تحل علينا هذه الأيام ذكرى هجرة النبى المصطفى صلوات ربنا وسلامه عليه ونتذكر هذه الحادثة التى غيرت مجرى التاريخ، إذ تأسست بها دولة الإسلام التي قادها سيد الأنام والخلفاء الراشدين من بعده لنشر الهداية والتوحيد في شتي بقاع الأرض.
وحين نتذكر هذه الحادثة المباركة بتفكر وتدبر نرى في طيات أحداثها الكثير من الدروس والعبر التى يجب أن نتخذها دستورا فى حياتنا إقتداء وتأسيا بحبيب قلوبنا وقائدنا إلى مرضاة ربنا سيد الأولين والآخرين نبينا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم.
وإن الناظر في حادثة الهجرة بوعى وتفحص يعلم يقينا أن نبينا صلى الله عليه وسلم هاجر بأمر من الله تعالى وليس عن هوى نفس او اجتهاد شخصى ، انما كانت الهجرة أمرأ من الله أمتثل له النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام.
لأن الأنبياء لا يهاجرون ولا يتركون اقوامهم الذين بعثهم الله فيهم إلا بأمر من ربهم، فما هاجر رسولنا إلا بامر وما هاجر إبراهيم إلى أرض الحجاز ليضع زوجته هاجر وولدها إسماعيل عند البيت المحرم إلا بأمر ، وما هاجر موسى إلى مدين إلا بأمر وما عاد إلى مصر مرة أخري إلى بأمر وما هاجر بعد ذلك ببني إسرائيل متجها لبيت المقدس إلا بأمر من ربه .
وما من بني ترك قومه الذين بعث فيهم دون أمر من الله بالهجرة إلا يونس عليه السلام حين هجرهم وذهب مغاضبا لعدم استجابة قومه لدعوة الله، فكان جزاؤه علي هذا الخطأ أن التقمه الحوت وظل أياما في بطنه ، ولولا ان تاب إلى الله واستغفر وتاب الله عليه لظل في بطن الحوت إلي يوم يبعثون .
فقد هاجر نبينا بأصحابه من مكة إلى المدينة ممتثلا لأمر ربه علام الغيوب الذى يعلم أن دولة الإسلام ستقوم من المدينة ليس من مكة.
المبدأ الثاني الذى يراه كل لبيب متفحص في هذه الحادثة هو أن نبينا هاجر عن قوة وقدرة علي محو أعدائه وأعداء اصحابه ، وما هاجر عن ضعف او لقلة حيلة في مواجهتهم بمكة ، بل كان يملك ان يمحيهم جميعا بعد ان يخرج من مكة بأصحابه، ثم يعود اليها باصحابه حاكما لها بعد ان خلت منهم ومن جحودهم وكفرهم.
كان يملك أن يطبق عليهم الأخشبين كما عرض عليه ملك الجبال والأخشبين جبلين عظيمين تقع مكة بينهما.
فقد هاجر النبي عن قوة وقدرة وليس عن ضعف ، إنما هاجر ممتثلا لأمر ربه رحمة باعدائه الذين يؤذونه ، وقال لملك الجبال حين عرض عليه هلاكهم في لحظة ( لا لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله و لا يشرك به شيئا) .
فالأمر ليس كما يدعى بعض العلامنة الفساق إذ كتب احدهم يوما يقول ان رسولنا قضي ثلاثة عشر عاما في مكة بائت بالفشل لذلك هاجر إلى مكة، كلمات تعبر عن جهل بالسيرة النبوية وتشويش بالعقيدة .
فقد ربى النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الأعوام الثلاثة عشر رجالا الواحد منهم بأمة ، فلما هاجر بهم تاركين كل شئ من حطام الدنيا ابتغاء وجه الله وآخا النبى بينهم وبين الأنصار في المدينة كونوا اقوى وافضل دولة عرفها تاريخ البشر .
ثم نستوحى الكثير من الدروس والعبر فى حادثة الهجرة وكان اهمها اليقين وحسن التوكل على الله والذى تجسد في قول رسولنا صلى الله عليه وسلم لسراقة بن مالك الذي لحق به لينال جائزة قريش ، عد ياسراقة ولك سوار كسري ، والذى ناله سراقة بالفعل في عهد عمر حين فتحت مدائن الفرس فأعطاه له الفاروق عمر. تصديقا لموعود رسول الله.
وتجسد اليقين وحسن التوكل في هذه الحادثة أيضا حين وصلت قريش إلى باب الغار الذى بداخله النبي وصاحبه، وقال ابو بكر يا رسول الله لو نظر احدهم تحت قدميه لرآنا فقال يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا ، ماظنك باثنين الله ثالثهما.
ومن الدروس الهامة أيضا التى يجب اتباعها مع اليقين والتوكل درس الأخذ بأسباب الحيطة والحذر ، إذ أعد النبي عليه الصلاة والسلام خطة محكمة للهجرة خالف فيها الطريق ليغمى على من يتبعونه من كفار قريش وكلف من يمحو آثار السير واتخذ دليلا واختار رفيقا وكلف من ياتيه بالطعام والشراب فى الأيام التي قضاها في الغار .
ومن الدروس التى نتعلمها من نبينا في حادثة الهجرة أيضا درس الإنتماء الوطنى ، فحين خرج صلى الله عليه وسلم من مكة وقف ينظر اليها ويقول لها والله إنك لأحب البلاد إلا قلبى وأحب البلاد إلى الله ولولا أن أهلك أخرجونى منك ماخرجت ، فلم يكن لكفر وعناد اهل مكة وإيذائهم له ولأصحابة أثرا على حب النبى لوطنه وبلده التى يخفق قلبه بحبها رغم ان أهلها يريدون قتله واضطروه إلى الخروج منها فهاجر منها وما هجرها بقلبه صلى الله عليه وسلم.
ومن الدروس أيضا التى يستفيد منها الناس حاكما ومحكوما فى إقامة الدولة القوية القادرة علي مواجهة أي عدو لها ، درس إصلاح ذات البين ومعاجة القضايا الإجتماعية التي تحدث الفرقة والبغضاء بين أفراد وطوائف المجتمع ، فنراه صلى الله عليه وسلم أول ما فعله بالمدينة الصلح بين أكبر قبيلتين متحاربتين منذ عشرات السنين ، حتي صاروا إخوانا متحابين في الله في ظل الإسلام وهما قبيلتا الأوس والخزرج .
ثم آخا النبي ما بين المهاجرين والأنصار ليعلمنا أن اخوة الدين لا تقل عن اخوة النسب بل لعلها تزيد ، فاصبح لكل أنصارى أخا من المهاجرين وأكرم الأنصارى أخاه المهاجر فاقتسم معه كل مايملك حتى الزوجات ، كان الأنصاري يقول لأخيه المهاجر أنظر إلى زوجتي هاتين أيهما أنضر لك أطلقها فإذا انقضت عدتها تتزوجها انت.
ومن الدروس السياسية التى نتعلمها من الهجرة أيضا في كيفية بناء الدول ما قام به النبي لإحداث وحدة وطنية بالمدينة إذ عاهد يهود المدينة وعقد معهم إتفاقية دفاع وطنى توجب الدفاع عن المدينة من أى عدو يغير عليها. ولكن اليهود خانوا كل الوعود وغدروا جميع العهود.
كما حالف النبي ايضا من غير المسلمين خارج المدينة فحالف قبيلة خزاعة ليكون للمدينة ظهير من خارجها وحليف يشد من أزرها وتشد من ازره ويقوى بعضهم بعضا .
وهكذا فإن قراءة دروس الهجرة نتعلم منها دستورا للحياة الناجحة فى عقيدتنا وإيماننا وعملنا ووطنيتنا ومجتمعنا وسياساتنا ووحدة وطننا بكل طوائفه وعلاقتنا بغيرنا وتعاملنا مع معاهدنا وحليفنا وعدونا.
( فدروس الهجرة تعليم وعبرة )
بقلم : طارق الصاوي المستشار الاعلامي لجمعية الطرق العربية