دين و دنيا

الدكتور حسنى ابوحبيب يكتب: دواء النفاق ومواجهة المكر

قال تعالى “وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا” (النساء: 81).صدر هذا الأمر الكريم لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم من قبل العليم بخلقه المحيط بهم سبحانه ، ليصف دواء النفاق ومواجهة المكر بالتوكل عليه والتوجه إليه ، فإنه سبحانه جعل لكل داء دواء ، ولكل مرض شفاء ، ولكل عين قره ، ولكل وجه غره.

جاء هذا الأمر ليصف أخلاق قوم تمكّن النفاق من قلوبهم ، مردوا عليه ، وعاشوا به ، يظهرون الطاعة لله ولرسوله ويضمرون عصيانهما ، يكونون عند الرسول على حال فإذا برزوا من عنده بيّتوا عكسها ، وهكذا دأب المنافقين في كل زمان ومكان. ثم تبين الآية الكريمة دواء هذا الأمر وكيفية مواجهته بالإعراض عن ذلك الصنف وعدم الاكتراث بما يبيتون والاهتمام بما يسرون ، وتفويض أمرهم إلى الله ، والثقة التامة في نصره وتأييده فهو الوكيل الذي ما خاب من توكل عليه وما ضل ، ولا هزم من اعتمد عليه ولا ذل.

والمتأمل في كتاب ربه المتدبر له يجد أن هذا الأمر لنبينا الكريم ومن خلاله بالطبع لأمته تكرر أكثر من مرة ، لكن جلها يأتي بعد ذكر المنافقين ، وكأن الله تعالى يريد أن يبين لعباده الطريقة الأجدى والسبيل الأنجع لمواجهة ذلك الصنف من أشباه البشر.

ولا شك أن التوكل على الحقيقة غامض من حيث العلم ، شاق من حيث العمل ، إذ إن ملاحظة الأسباب والانشغال بها عن مسببها شرك في التوحيد ، كما أن إهمالها والإعراض عنها طعن في السنة ، ومن هنا كان حسن التوكل علامة من علامات كمال الإيمان وشرط من شروط تمامه ، “وعلى فتوكلوا إن كنتم مؤمنين” (المادة: 23) ، “وعلى الله فليتوكل المؤمنون” (آل عمران: 122).

وقد خص الله تعالى المتوكلين عليه اللاجئين إليه بحبه ورعايته ، واصطفاهم لعزه وكفايته ، فوعد وصدق وعده: “إن الله يحب المتوكلين” (آل عمران: 159) ، وقال وحق قوله: “ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم” (الانفال: 49) ، وأخبر وواقع خبره: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه” (الطلاق: 3).

ومن كان الله محبه وراعيه ، وحسبه وكافيه وسنده وواليه ، فقد نال السعادتين ، وفاز في الدارين ، وأمن كل شر ، وحسن له المقام والمستقر ، “أليس الله بكاف عبده” (الزمر: 36). بلى هو كافيه ومغنيه.

وقد استحق أولئك القوم دخول جنة ربهم بلا حساب ولا عتاب ولا سابقة عذاب ، ﻗﺎﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: “ﻳﺪﺧﻞ اﻟﺠﻨﺔ ﻣﻦ ﺃﻣﺘﻲ ﺳﺒﻌﻮﻥ ﺃﻟﻔﺎ ﺑﻐﻴﺮ ﺣﺴﺎﺏ ، ﻗﺎﻟﻮا: ﻭﻣﻦ ﻫﻢ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ؟ ﻗﺎﻝ: ﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﻜﺘﻮﻭﻥ ﻭﻻ ﻳﺴﺘﺮﻗﻮﻥ، ﻭﻋﻠﻰ ﺭﺑﻬﻢ ﻳﺘﻮﻛﻠﻮﻥ” (صحيح مسلم).

واعلم يا راعاك الله أن حسن التوكل على الله إنما هو وفاء بالعهد القديم الذي أخذه على عباده في عالم الذر ، “ألست بربكم” (الأعراف: 172) ، فمن أقر حقاً بعبوديته لله وربوبية الله له وكل إليه أمره وأسند إليه ظهره ، فلا يطلب إلا منه ، ولا يثق إلا فيه ، ولا يعتمد إلا عليه.

لما ألقي سيدنا إبراهيم في النار جاءه سيدنا جبريل عليهما السلام ، فقال له: ألك حاجة ؟ فأجابه: أما إليك فلا ، وما زاد على قوله: حسبنا الله ونعم الوكيل ، لذا وصفه الله تعالى بالوفاء ، فقال: “وإبراهيم الذي وفٌى” (النجم: 37).

عندما علم سلفنا الصالح تلك الحقائق أحسنوا التوكل على الله فأراحوا واستراحوا ، وكانوا يقولون دوماً: ﻻ ينبغي للعبد أن ينشغل باﻟﻤﻀﻤﻮﻥ له ﻣﻦ اﻟﺮﺯﻕ ﻋﻦ اﻟﻤﻔﺮﻭﺽ عليه ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ فيضيع ﺃﻣﺮ آخرته ﻭﻻ ينال ﻣﻦ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺇﻻ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻛﺘﺐ اﻟﻠﻪ له.

لذا أحسنوا التوكل فاستقرت قلوبهم وقرت عيونهم ورضيت نفوسهم ، فلم يشغلوا أنفسهم بالدنيا ولكن اشتغلوا بمالكها فسخرها لهم وأمرها بخدمتهم وان تكون معهم حيث كانوا ، قيل لحبيب العجمي لم تركت التجارة قال رأيت الكفيل ثقة. ﻭﻗﺎﻝ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ ﺃﺩﻫﻢ: ﺳﺄﻟﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﺮﻫﺒﺎﻥ ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﺗﺄﻛﻞ ؟ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ: ﻟﻴﺲ ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ ﻋﻨﺪﻱ ، ﻭﻟﻜﻦ ﺳﻞ ﺭﺑﻲ ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﻳﻄﻌﻤﻨﻲ ؟!!.

ﻗﺎﻝ ﻫﺮﻡ ﺑﻦ ﺣﻴﺎﻥ ﻷﻭﻳﺲ اﻟﻘﺮﻧﻲ: ﺃﻳﻦ ﺗﺄﻣﺮﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﻛﻮﻥ ؟، ﻓﺄﻭﻣﺄ ﺇﻟﻰ اﻟﺸﺎﻡ. ﻗﺎﻝ ﻫﺮﻡ: ﻛﻴﻒ اﻟﻤﻌﻴﺸﺔ ؟ ﻗﺎﻝ ﺃﻭﻳﺲ: ﺃﻑ ﻟﻬﺬﻩ اﻟﻘﻠﻮﺏ ﻗﺪ ﺧﺎﻟﻄﻬﺎ اﻟﺸﻚ ﻓﻤﺎ ﺗﻨﻔﻌﻬﺎ اﻟﻤﻮﻋﻈﺔ.وأختم بقول أحد العارفين: من رضي بالله وكيلا وجد إلى كل خير سبيلا.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن التوكل عليه ، وصدق الاعتماد عليه ، وألا يكلنا لأحد غيره ، إنه نعم المولى ونعم الوكيل.

زر الذهاب إلى الأعلى