دين و دنيا

الدكتور حسنى ابوحبيب يكتب : حاسة لا تموت

قال تعالى “إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله” (الأنعام: 36).لا شك أن السمع حاسة تمتاز على غيرها من الحواس بأنها حاسة لا تنام ، بها يسمع الإنسان قبل أن يخرج من بطن أمه ، كما أنه لا يزال بها يسمع لمدة ثلاثة أيام في قبره بعد موته ، ومن خلالها يسمع في الظلام كما في النور ، أيضاً تعمل في جميع الجهات ، ولولاها ما حُصّل علم ، ولا أُدرك فقه ، لذا قدمها الله تعالى على غيرها في كتابه العزيز ، فنراه تعالى يقدمها في جميع آياته على البصر ماعدا ثلاث آيات:

أولها: قوله تعالى: “مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع…” (هود: 24).

ثانيها: قوله تعالى: “قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع..” (الكهف: 26).

ثالثها: قوله تعالى: “ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا…” (السجدة: 12).

وفيما عدا ذلك فهي مقدمة على البصر أبداً.كما قدمها تعالى في كتابه على العلم في جميع آياته إذ إنه بها يُحصّل العلم ، لذا لا نرى أصماً بلغ من العلم شيئاً بيد أننا رأينا عمياناً بلغوا القمة في العلم ونالوا العلا في الفقه وصاروا أساتذة لكثير من الناس في مختلف العلوم والآداب.

وهي من الحواس التي أنعم الله بها على الإنسان ، بل وأشرك معه بقية خلقه فيها ، فهي حاسة يشترك فيها الإنسان مع خلق الله جميعاً من حيوان وطير ونبات بله وجماد.

أما عن الإنسان والحيوان والطير فكل الناس يلحظون ذلك ، لكن بالنسبة للنبات أو الجماد فقليل من يعرف أن لديهم تلك الحاسة ، على الرغم من كونهما يسمعان ما لم يستطع سماعه الثقلان ، ولطالما أخبرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن تلك المخلوقات تسمع صيحات الملائك وغيرها مما لم يستطع سماعه أنس ولا جن ، جاء في المستدرك ﻋﻦ ﺃﺑﻲ اﻟﺪﺭﺩاء ، ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ أنه قال: “ﻣﺎ ﻃﻠﻌﺖ ﺷﻤﺲ ﻗﻂ، ﺇﻻ ﺑُﻌﺚ ﺑﺠﻨﺒﺘﻴﻬﺎ ﻣﻠﻜﺎﻥ ﺇﻧﻬﻤﺎ ﻟﻴُﺴﻤﻌﺎﻥ ﺃﻫﻞ اﻷﺭﺽ ﺇﻻ اﻟﺜﻘﻠﻴﻦ: ﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ اﻟﻨﺎﺱ، ﻫﻠﻤﻮا ﺇﻟﻰ ﺭﺑﻜﻢ ﻓﺈﻥ ﻣﺎ ﻗﻞ ﻭﻛﻔﻰ ﺧﻴﺮ ﻣﻤﺎ ﻛﺜﺮ ﻭﺃﻟﻬﻰ ، ﻭﻣﺎ ﻏﺮﺑﺖ ﺷﻤﺲ ﻗﻂ ﺇﻻ ﻭﺑﺠﻨﺒﺘﻴﻬﺎ ﻣﻠﻜﺎﻥ ﻳﻨﺎﺩﻳﺎﻥ: اﻟﻠﻬﻢ ﻋﺠﻞ ﻟﻤﻨﻔﻖ ﺧﻠﻔﺎً ﻭﻋﺠﻞ ﻟﻤﻤﺴﻚ ﺗﻠﻔﺎً”.

لذا لمّا سمعت السماء والأرض والجبال نسبة الولد والصاحبة لله عزّ وجل تأثروا أشد التأثير حتى كادت السماء أن تنفطر ، والأرض أن تنشق ، والجبال أن تُهدّ من شدة وقع هذا الادعاء الباطل على مسامعهم ، “وقالوا اتخذ الله ولدا * لقد جئتم شيئا إدّا * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا * أن دعوا للرحمن ولدا” (مريم: 88 : 91).

ومع ذلك فإن هناك صنفاً من الناس عطّلوا تلك الحاسة عندهم كما عطلوا غيرها من الحواس فتراهم يسمعون ولا يستمعون وينظرون ولا يبصرون ، ولا يتدبرون ولا يعقلون ، ولا شك أن هذا الصنف أظلم الظالمين لنفسه ، “وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” (البقرة: 57).

وهؤلاء على الحقيقة هم الموتى ، وما أكثرهم في دنيا الناس ، وإن كانت لحومهم ودماؤهم متحركة فقلوبهم وأرواحهم ميتة ، وكلما طالت حياة أجسادهم كلما كثرت حسراتهم ، ومن هنا قيل: “من ساعده الوقت فالوقت له وقت ، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت”.

ولله در البحتري إذ يقول: ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الاحياء
وما الناس إلا صنفان: أحدهما: ميت على الرغم من كونه حيّاً ، والآخر: حي وإن ضمته الأرض إلى باطنها.
قد مات قوم وما ماتت مآثرهم * وعاش قوم وهم في الناس أموات.

فالذين يستجيبون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم هم الأحياء ، وما عداهم موتى. إن شاء الله أن يبعثهم بعثهم وإلا فهم موتى أبداً.

ما أريد قوله: إن الميت هو من مات قلبه وجفت مشاعره ورحل إلى غير رجعة ضميره ، فلا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً ، ولا يفرح بطاعة كما لا يأسى على معصية ، ولا تشغله سوى نفسه ، ولا يقوده غير هواه ، ولا تحكمه سوى مصلحته ، ولا يطيع إلا غرائزه ، ولا يسمع إلا لشيطانه ، فهذا هو الميت الذي ندعو الله تعالى أن يبعثه قبل يوم البعث وأن يهديه قبل فوات الأوان وأن ينفخ فيه الحياة في هذه الدنيا وأن يجعل لهم نوراً يسري بين جوانحهم تحيا به قلوبهم ، “أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها…” (الأنعام: 121).

لذا وجب على العقلاء أن يكونوا من موت قلوبهم أخوف منهم من موت أبدانهم ، فالبدن ميت ميت لا محالة ولا يترتب على موته كثير ضرر طالما كان القلب الذي يحمله حي ، أما القلب إن مات فبموته تكون خسارة الدارين وفوات السعادتين وشقاء الأبد.

والقول الكريم الذي نحن بصدد الحديث عنه يُسري عن أنفسنا ويُذهب عنها الهم والغم ، فمن استجاب لك وأنت تدعوه إلى ربه وإلى القيم والمُثل والأخلاق فهو الحي الذي يسمع ويستمع ، ومن رفض دعوة ربه وأبى أن يتبع رسوله فزاغ وضل وبدّل وغيّر وأبى إلا النكث واللعن ، فلا مُثُل لديه ولا مبادىء ، ومهما دعوته لا يستمع فاعلم أنه الميت الذي أخبرنا الله عنه ولا أحد يملك هدايته أو بعث قلبه إلا من بيده الأمر ، فهو وحده الذي يملك بعثهم وهدايتهم ، “إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله”.

نسأل الله تعالى أن يهدينا وأن يهدي بنا ، وأن يحيي موات قلوبنا وأن يردنا إليه ردّاً جميلاً.هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى