دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب : إنفاق المشاعر

قال تعالى “وأنفقوا خيراً لأنفسكم” (التغابن: 16).هذا وعد كريم من ربٍ كريم لا يخلف الميعاد لكل من ينفق نفقة صغيرة أو كبيرة له وفي سبيله أن إنفاقه خير لنفسه ، لذا حمل المؤمنين إيمانهم بأنه جواد يحب الجود والجوّادين ، كما أنه يكره البخل والباخلين ، كذلك يقينهم بصدق وعده في قوله: “وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه” (سبأ: 39) على أن يجودوا في سبيله بما منّ تعالى به عليهم ، وليس ذلك إلا لتمام يقينهم به وكمال توكلهم عليه وحسن ظنهم فيه.

ولما لا ينفقون وقد سمعوا نبيهم صلى الله عليه وسلم يقول: “ﻣﺎ ﻣﻦ ﻳﻮﻡ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻌﺒﺎﺩ ﻓﻴﻪ ، ﺇﻻ ﻣﻠﻜﺎﻥ ﻳﻨﺰﻻﻥ ، ﻓﻴﻘﻮﻝ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ: اﻟﻠﻬﻢ ﺃﻋﻂ ﻣﻨﻔﻘﺎً ﺧﻠﻔﺎً ، ﻭﻳﻘﻮﻝ اﻵﺧﺮ: اﻟﻠﻬﻢ ﺃﻋﻂ ﻣﻤﺴﻜﺎً ﺗﻠﻔﺎً” (صحيح البخاري) ، فآمنوا به وصدقوه.

والجود لا ريب زينة الدين وصلاحه ، وحسن الإيمان وتمامه ، ﻋﻦ ﻋﻤﺮاﻥ ﺑﻦ ﺣﺼﻴﻦ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﺇﻥ اﻟﻠﻪ اﺳﺘﺨﻠﺺ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻓﻼ ﻳﺼﻠﺢ ﻟﺪﻳﻨﻜﻢ ﺇﻻ اﻟﺴﺨﺎء ﻭﺣﺴﻦ اﻟﺨﻠﻖ ﺃﻻ ﻓﺰﻳﻨﻮا ﺩﻳﻨﻜﻢ ﺑﻬﻤﺎ. (رواه الطبراني).

والإنفاق ليس وقفاً على الذهب والورِق أو المال والأنعام ، بل أعم من ذلك وأشمل ، فهناك أنواع من الإنفاق تفوق إنفاق المال بكثير ، كمن ينفق وقته لخدمة الناس وإكرامهم ، فمن يكرم ضيفه بوقته وبشاشة وجهه وطلاقة أساريره أعظم أجراً ممن يكرم ضيفه بماله فقط ، لذا لما سُئل اﻷﻭﺯاﻋﻲ ﻣﺎ ﺇﻛﺮاﻡ اﻟﻀﻴﻒ ﻗﺎﻝ ﻃﻼﻗﺔ اﻟﻮﺟﻪ ﻭﻃﻴﺐ اﻟﻜﻼﻡ ، من هذا قول الشاعر:

ﻭﺇﻧﻲ ﻟﻄﻠﻖ اﻟﻮﺟﻪ ﻟﻠﻤﺒﺘﻐﻲ اﻟﻘﺮﻯ ﻭﺇﻥ ﻓﻨﺎﺋﻲ ﻟﻠﻘﺮﻯ ﻟﺮﺣﻴﺐ
ﺃﺿﺎﺣﻚ ﺿﻴﻔﻲ ﻋﻨﺪ ﺇﻧﺰاﻝ ﺭﺣﻠﻪ ﻓﻴﺨﺼﺐ ﻋﻨﺪﻱ ﻭاﻟﻤﺤﻞ ﺟﺪﻳﺐ
ﻭﻣﺎ اﻟﺨﺼﺐ ﻟﻷﺿﻴﺎﻑ ﺃﻥ ﻳﻜﺜﺮ اﻟﻘﺮﻯ ﻭﻟﻜﻨﻤﺎ ﻭﺟﻪ اﻟﻜﺮﻳﻢ ﺧﺼﻴﺐ.

كما أن هناك نوعاً من الإنفاق يسمى إنفاق المشاعر ، وهو لا شك أسمى أنواع الإنفاق ، فكم من صالحٍ أبى أن يملأ بطنه مشاركة منه للجياع في جوعهم ، كتب سيدنا الإمام علي رضي الله عنه يوماً لعثمان ﺑﻦ ﺣﻨﻴﻒ اﻷﻧﺼﺎﺭﻱ ﻋﺎﻣﻠﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﺼﺮﺓ: ﻟﻮ ﺷﺌﺖ ﻻﻫﺘﺪﻳﺖ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺇﻟﻰ ﻣﺼﻔﻰ ﻫﺬا اﻟﻌﺴﻞ ، ﻭﻟﺒﺎﺏ ﻫﺬا اﻟﻘﻤﺢ ، ﻭﻧﺴﺎﺋﺞ ﻫﺬا اﻟﻘﺰ ، ﻭﻟﻜﻦ ﻫﻴﻬﺎﺕ ﺃﻥ ﻳﻐﻠﺒﻨﻲ ﻫﻮاﻱ ، ﻭﻳﻘﻮﺩﻧﻲ ﺟﺸﻌﻲ ﺇﻟﻰ ﺗﺨﻴﺮ اﻷﻃﻌﻤﺔ ، ﻭﻟﻌﻞ ﺑﺎﻟﺤﺠﺎﺯ ﻭﺑﺎﻟﻴﻤﺎﻣﺔ ﻣﻦ ﻻ ﻃﻤﻊ ﻟﻪ ﻓﻲ اﻟﻘﺮﺹ ، ﻭﻻ ﻋﻬﺪ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﺸﺒﻊ ! ﺃﻭ ﺃﺑﻴﺖ ﻣﺒﻄﺎﻧﺎ ﻭﺣﻮﻟﻲ ﺑﻄﻮﻥ ﻏﺮﺛﻰ ، ﻭﺃﻛﺒﺎﺩ ﺣﺮﻯ ، ﺃﻭ ﺃﻛﻮﻥ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ اﻟﻘﺎﺋﻞ:
ﻭﺣﺴﺒﻚ ﻋﺎﺭا ﺃﻥ ﺗﺒﻴﺖ ﺑﺒﻄﻨﺔ * ﻭﺣﻮﻟﻚ ﺃﻛﺒﺎﺩ ﺗﺤﻦ ﺇﻟﻰ اﻟﻘﺪ.
ﺃﺃﻗﻨﻊ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻲ ﺑﺄﻥ ﻳﻘﺎﻝ: ﻫﺬا ﺃﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻭﻻ ﺃﺷﺎﺭﻛﻬﻢ ﻓﻲ ﻣﻜﺎﺭﻩ اﻟﺪﻫﺮ ، ﺃﻭ ﺃﻛﻮﻥ ﺃﺳﻮﺓ ﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﺟﺸﻮﺑﺔ اﻟﻌﻴﺶ.

في عام الرمادة لما عم القحط والجوع ، طلب سيدنا عمر بن الخطاب طعاماً فأتي إليه بإناء فيه إدام ووضع عليه زيت فأبى رضي الله عنه وقال إدامين في إناء واحد والناس جوعى والله لا يفعلها عمر.

أيضاً من الإنفاق بالمشاعر ما كان من المرأة الأنصارية التي دخلت على أمنا عائشة رضي الله عنها وهي تبكي في حادث الإفك ، فبكت لبكائها ، تقول السيدة عائشة والله لا أنساها لها.

ﻗﺎﻝ اﺑﻦ اﻟﻤﺒﺎﺭﻙ: ﻛﻨﺖ ﺃﻣﺎﺷﻲ اﻟﺨﻠﻴﻞ بن أحمد ، ﻓﺎﻧﻘﻄﻊ ﺷﺴﻊ ﻧﻌﻠﻲ ، ﻓﺨﻠﻌﺘﻬﺎ ، ﻓﻄﻔﻘﺖ ﺃﻣﺸﻲ ، ﻓﺨﻠﻊ اﻟﺨﻠﻴﻞ ﺃﻳﻀﺎً ﻧﻌﻠﻴﻪ ، ﻓﻘﻠﺖ: ﺑﺄﺑﻲ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ! ﻟﻢ ﺧﻠﻌﺘﻬﺎ ؟ ﻓﻘﺎﻝ: رأيت من الجفاء ألا أواسيك في اﻟﺤﻔﺎء.

كما أن هناك نوعاً من الإنفاق يكون بالسلب لا بالإيجاب ، كمن لا مال له ولكنه يصبر عن الشهوات ويحتسب ، ويكف نفسه عن النظر لمال غيره ولا يطمع إلا فيما عند الله ، ﻋﻦ اﻟﻀﺤﺎﻙ ﻗﺎﻝ: ﻣﻦ ﺩﺧﻞ اﻟﺴﻮﻕ ﻓﺮﺃﻯ ﺷﻴﺌﺎ ﻳﺸﺘﻬﻴﻪ ﻓﺼﺒﺮ ﻭاﺣﺘﺴﺐ ﻛﺎﻥ ﺧﻴﺮاً ﻟﻪ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺩﻳﻨﺎﺭ ﻳﻨﻔﻘﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ.

والإنفاق بأي شكلٍ كان يقرب صاحبه من الناس وربهم ، ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ: “اﻟﺴﺨﻲ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺔ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻌﻴﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺭ ، ﻭاﻟﺒﺨﻴﻞ ﺑﻌﻴﺪ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ ﺑﻌﻴﺪ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺔ ﺑﻌﻴﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺭ ، ﻭاﻟﺠﺎﻫﻞ اﻟﺴﺨﻲ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻣﻦ العابد البخيل” (سنن الترمذي).

والمنفقون هم سادات الناس على وجه الحقيقة ، ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ: ﻟﺴﺎﺩاﺕ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﻴﺎ اﻷﺳﺨﻴﺎء ﻭﻓﻲ اﻵﺧﺮﺓ اﻷﺗﻘﻴﺎء.

ولا سؤدد بلا جود ، لذا قيل في الحكم: سؤدد بلا جود كملك بلا جنود ، وأفضل الجود الجود بالموجود ، والبخل سوء ظن بالمعبود ، ومن جاد ساد ﻭﻣﻦ ﺃﺿﻌﻒ اﺯﺩاﺩ. ﻭﻗﺎﻝ ﺑﻌﺾ اﻟﻔﺼﺤﺎء: ﺟﻮﺩ اﻟﺮﺟﻞ ﻳﺤﺒﺒﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﺿﺪاﺩﻩ ، ﻭﺑﺨﻠﻪ ﻳﺒﻐﻀﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﻭﻻﺩﻩ.

كما أن الإنفاق يخفف الله به العذاب عن صاحبه وإن مات كافراً ، ﻗﺎﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻟﻌﺪﻱ ﺑﻦ ﺣﺎﺗﻢ: ﺭﻓﻊ اﻟﻠﻪ ﻋﻦ ﺃﺑﻴﻚ اﻟﻌﺬاﺏ اﻟﺸﺪﻳﺪ ﻟﺴﺨﺎﺋﻪ. كما أوصانا رسولنا صلى الله عليه وسلم بالتجاوز عن زلة المنفق وذنبه لأن الله تعالى يتجاوز عنه ويأخذ بيده وينجيه من كل مصيبة ، قال صلى الله عليه وسلم: “ﺗﺠﺎﻭﺯﻭا ﻋﻦ ﺫﻧﺐ اﻟﺴﺨﻲ ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﺁﺧﺬ ﺑﻴﺪﻩ ﻛﻠﻤﺎ ﻋﺜﺮ ﻭﻓﺎﺗﺢ ﻟﻪ ﻛﻠﻤﺎ اﻓﺘﻘﺮ”.

لكن قبل أن أختم أحب أن أقول: ينبغي للمنفق أن ينظر أين ينفق حتى لا يعطي من لا يستحق ، فيكون كمن وضع الشيء في غير موضعه ، فيُفسد من حيث أراد الإصلاح ، فمن أعطى من لا يستحق كان كمن منع من يستحق ، وكان كمن أعطى صوفاً لخرقاء ، أو أهدى منوالاً لعمياء. ولا يخفي على أحد الفساد الذي يترتب على وضع الشيء في غير موضعه.

وقديماً قالوا:إنك إن أكرمت الكريم ملكته* وإن أكرمت اللئيم تمردا.

وصدق الله العظيم إذ يقول: “وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله” (74).هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى