دين و دنيا

الدكتور حسنى ابوحبيب يكتب: الشورى من حيز التنظير إلى حيز التطبيق

وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” (آل عمران: 159) رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لا شك أنه كان أكمل الناس عقلاً ، وأرجحهم فكراً ، وأسدّهم رأياً ، ومع ذلك فهو مأمور بهذا القول الكريم ، وبالتالي فكل من ولى للمسلمين أمراً فهو معنيٌّ بهذا الأمر ، وإذا كانت الشورى في حقه صلى الله عليه وسلم واجبه ، فهي في حق من سواه أوجب.

والشورى في ديننا الحنيف أصل من أصوله ، ومبدأ من مبادئه ، وهي تعد من مزاياه الدالة على عظمته وشموله ، ولا خير في أمر أُبرم دونها ، فبها يستنبط الصواب ، ومنها تستخلص الآراء ، ومعها لا لوم ولا ندم ، بها ضمن أهلها الرأي الراشد والقول السديد ، قال صلى الله عليه وسلم: “ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم” ، الخطأ معها أفضل من الصواب بدونها ، لذا قيل: من أكثر الاستشارة لم يعدم عند الإصابة مادحاً ، وعند الخطأ عاذراً.

ولأهميتها خصّص الله تعالى لها سورة كاملة في كتابه العزيز سُمّيت باسمها ، وفيها وصف تعالى أهلها بأنهم قوم: به آمنوا وعليه توكلوا ، اجتنبوا الكبائر ، ونأوا عن الفواحش ، استجابوا لأمره ، فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، ومع كل ذلك فهم لا يستكينون لباغٕ ولا يصبرون على ظالم. “وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ” (الشورى : 36 : 39).

والمتأمل لتلك الآيات الكريمات يجد أن الشورى توسطت ركنين عظيمين من أركان الإسلام ، هما: الصلاة والزكاة ، وفي ذلك – لا ريب – دلالة على أهميتها ، وعلى ضرورة مداومة الأمة عليها كمداومتها على الصلاة والزكاة ، فبها نهض الإسلام ، وعليها قامت دولته ، وفي ظلها نشأت حضارته وسادت شرائعه.

ولقد طبّق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ خلال حياته كلها ، فلم يمنعه شرفه أو رجاحة عقله أو اتصاله الوثيق بوحي ربه من مشاورته أصحابه وإن كانوا دونه عقلاً وفكراً ورأياً ، وما موقفه يوم بدر والحديبية والأحزاب ببعيد عن المتابعين لسيرته ، وعلى نهجه سار خلفاؤه على دولته ، وأمناؤه على دعوته ، حتى قويت الشوكة واستقامت الدولة.

وقد يخلط الكثيرون بين الشورى والديمقراطية في حين أنهما يتفقان في وجوه ويختلفان في أخرى ، والفروق التي بينهما أهمها ما يلي:
أن الشورى لها سقف تقف عنده ، ألا وهو شرع الله المستمد من كتابه وصحيح سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لكن الديموقراطية لا سقف لها ، ففيها الشعب سيد قراره ، يرى ما يراه ويُقر ما يُقره.

أن الشورى لها مرجعية ألا وهي مصادر التشريع في الإسلام ، من قرآن وسنة وإجماع إلى غير ذلك ، أما الديموقراطية فلا مرجعية لها إلا رأي الشعب.

أن الشورى قاصرة على أهل الاختصاص في كل مجال ، فأهلها أهل الذكر والأمانة في كل تخصص وعلى الحاكم أن يشاورهم هم ، وهم المقصود بهم: (أهل الحل والعقد) ، أما الديموقراطية فمبناها على الأكثرية من الشعب بغض النظر عن مدى وعيهم وعلمهم وأمانتهم ، فصوت الجاهل فيها يساوي تماماً صوت أعلم العلماء.

أن الشورى تجمع بين مزايا الديموقراطية من حيث سماحها للشعب بالمشاركة الفاعلة وفي الوقت نفسه تتفادى مساوءها فلا تسمح بتسلط الشعب على حاكمه تسلطاً يغل يده ويشتت فكره ، كما أنها تأخذ من النظام الدكتاتوري مزاياه وهو السمع والطاعة في التنفيذ بعد المشورة بالطبع ، وفي الوقت نفسه تطرح مساوءه فلا تسمح بتسلط الحاكم على الشعب بأي شكل كان ، وبهذا منعت من التسلط والاستبداد كما دعت إلى الألفة والتواد.

ومن هنا كان تفرد الإسلام بالشورى سبباً في قوة دولته وديمومة حضارته ، فلا تؤخذ المشورة إلا من أهلها ، وإلا كانت سبباً في الفساد والإفساد ، وأقرب الصور إلى تلك الشورى في عصرنا هذا هي ما يطلق عليها الديموقراطية النيابية وهي أن يقوم الشعب باختيار من يمثله ومن يدير له شئون حياته ويسن له من القوانين ما بها تنتظم حياته وفق الشرع الحنيف ، وهذا الدور هو الدور الذي تقوم به البرلمانات في دولنا العربية والإسلامية.

لكن كي تؤتي الشورى ثمارها لا بد وأن يكون للشعب وعي معرفي وثقافة سياسية يؤهلانه لإخراج مبدأ الشورى من حيز التنظير إلى حيز التطبيق.

وما أقصده بالوعي المعرفي هو أن يكون لدى الشعب وعي بمشكلاته السياسية والتحديات التي تواجه بلاده وأمته حتى لا يطلب مستحيلاً أو يحمل الحاكم فوق طاقته.

أما الثقافة السياسية فهي أن يكون لدى الشعب ثقافة سياسية تؤهله لأن يضع دساتيره وفقاً لثقافته وبالتالي تكون قوانينه ناشئة عن تلك الثقافة ومتناغمة مع بيئته ، فإن كانت كذلك ساهمت في بناء المجتمع ، وإلا كانت سبباً في تخلفه ، لذى نرى دساتير وقوانين طبقت في بلاد فنهضت بها وتطبع بها المجتمع وما ذاك إلا لأنها خرجت من ثقافته ، في حين أنها لو طبقت في بيئة مغايرة لاختلفت نتائجها.

من هنا كان استيراد الدساتير والقوانين من بيئات مختلفة لا يصب في مصلحة أي مجتمع بحالٍ من الأحوال.

وأختم بكلمات قالها الفقيه السياسي الإمام أبو الحسن الماوردي في كتابه نصيحة الملوك: “ومما يجب أن يكون معلوماً أن زينة الملك بصلاح الرعية ، والرعية كلما كانت أغنى وأثرى وأجل حالاً في دين ودنيا ، والمملكة كلما كانت أعمر وأوسع ، كان الملك أعظم سلطاناً وأجل شأناً ، وكلما كانت أوضع حالاً وأخس حالاً ، كان الملك أخس مملكة وأنزر دخلاً وأقل فخراً”.

زر الذهاب إلى الأعلى