دين و دنيا

الدكتور حسنى ابوحبيب يكتب: جزاء كل ضعيف يعاند قويّاً

قال تعالى فى محكم التنزيل”أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ” (المجادلة: 6)اﻹﺣﺼﺎء: عدٌّ ﺑﺈﺣﺎﻃﺔ ﻭﺿﺒﻂ ، ﺇﺫ ﺃﺻﻠﻪ اﻟﻌﺪﺩ ﺑﺂﺣﺎﺩ اﻟﺤﺼﻰ ﻟﻠﺘﻘﻮِّي على اﻟﻀﺒﻂ ، ﻓﻬﻮ ﺃﺧﺺ ﻣﻦ اﻟﻌﺪّ ﻟﻌﺪﻡ ﻟﺰﻭﻡ اﻹﺣﺎﻃﺔ ﻓﻴﻪ.

والمحصي اسم من أسماء الله تعالى ، لم يُذكر صريحاً في القرآن الكريم لكن ذُكرت مادته ، وهو يعني أنه تعالى محيط بجميع الكائنات علماً ، بصير بظواهرها ، خبير ببواطنها ، لا يعزب عنه مثقال ذرة ، ولا يفوته شيء في كوكب أو في مجرّة ، إليه منتهى العلوم ، وعنده مفاتيح الغيوب ، كل صغير وكبير أحصاه ، وكل دقيق وجليل وعاه ، “وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كتابا” (النبأ: 29) ، “وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين” (الأنعام: 59).

والقول الكريم الذي استهللنا به حديثنا جاء بعد ذكر أقوام شاقوا الله تعالى وعاندوا رسوله ، فحقّ عليهم الخزي والذل والهوان ، فكُبتوا كما كُبت من قبلهم ممن ذُلوا وأُهينوا بما اقترفوه من معاندة وطغيان ، وهذا جزاء كل ضعيف يعاند قويّاً ، وعاقبة كل فقير يجحد غنيّاً.

جاء هذا القول المبين ليُبيّن للعالمين أن الأعمال عند الله مدونة ، والأفعال مسجٌلة ، كل ذلك عند إلهٍ لا يضل ولا ينسى ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض كانت أو في السماء.

وحتماً سيأتي يوم تُنشر فيه كل الدواوين ، وتفتح فيه جميع السجلات ، وسيرى الناس أن جميع أعمالهم ، سرّها وعلنها ، حاضرة أمامهم ، “وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا” (الكهف: 46).

إن الإنسان بحكم تكوينه قد يعمل العمل وينساه ، خيراً كان أو شرّاً ، لكن الحفظة الكرام يأبون ذلك بأمر ربهم ، فيسجلونه تسجيلاً دقيقاً صوتاً وصورة بكل تفاصيله ، تسجيلاً يفوق تسجيل أحدث الكاميرات بتقنية لم ولن يصل إليها بشر ، بحيث إذا عُرض العمل على صاحبه لا يستطيع أن ينكره ، كل ذلك حاضر عند ربّ لا تأخذه سنة ولا نوم ، “يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ” (آل عمران: 30) ، عندها يعجب هؤلاء أشد العجب من دقة التسجيل وروعة التصوير ، فيقولون مدهوشين: “مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا” (الكهف: 46).

إن هناك صنفاً من الأناسي يعملون عمل من لا ربّ لهم ولا إله ، وإذا دقٌقت فيما يقومون به من مخالفات تسمع لسان حالهم من خلالها يقول بأعلى صوته صارخاً: “إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ” (المؤمنون: 37) ، أما ألسنة مقالهم فما أعذبها وأحلاها ، “يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ” (الفتح: 11) ، ألم يعلم هؤلاء أن أكبر أسباب المقت أن يخالف لسان المرء قلبه ، وألا يوافق قوله فعله ، لذا عاتب الله تعالى هؤلاء وأمثالهم بقوله: “لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” (الصف: 2 : 3).

اللهم إنا نعوذ بك من مخالفة ألسنتنا لقلوبنا ، وحسّن يا ربنا بتوفيقك أفعالنا لتحسن أقوالنا ، واجعل باطننا أفضل من ظاهرنا وآخرتنا خير لنا من أولانا بكرمك يا أكرم الأكرمين.

زر الذهاب إلى الأعلى