دين و دنيا

الدكتور حسنى ابوحبيب يكتب: أرجى آيات الذكر الحكيم

“قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ” (الإسراء: 84):
هذه الآية الكريمة أعدّها الصديق رضي الله تعالى عنه أرجى آيات الذكر الحكيم ، حيث كان يقول: لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران.

ومجمل معناها: أن كلاً يعمل على طريقته التي جبل عليها ، أو على السبيل الذي اختاره لنفسه ، أو على جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه ، والشاكلة من الشكل ، يقال: لست على شكلي وشاكلتي ، ومجاز الآية: كلُّ يعمل على ما يشبهه ، كما جاء في المثل: كل امريء يشبهه فعله.

قال الخازن في تفسيره لها: “أن كل إنسان يعمل على حسب جوهر نفسه ، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة ، صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية طاهرة ، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة”.

وفي الحقيقة أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي تربّى عليها وألفها ، لذا فالنظر ينبغي أن يتوجه للناس من خلال أخلاقهم وأفعالهم.

والنظر إلى بني آدم إما أن يتوجه إلى الصورة ، وإما إلى المعني ، فمن نظر إلى الصورة فقط لم ينكشف له المعنى ، فكأنما رأى شبحاً ، ومن نظر إلى ما وراء الصورة انكشفت له المعاني ، حتى تكون الصورة في معنى المعاني.

وبالمعاني يتفاضل البشر لا بالصور ، وبالضمائر يكون التفاوت بين بني آدم ، وقرآننا الكريم لم يرد فيه على كثرة آياته مدح أحد لجمال صورته ، بل اطرد فيه مدح المعاني والضمائر ، من أخلاق وفعال ومواقف.

ونحن في هذا الزمان العجيب الذي نعيش ظرفه ، أنّى توجهنا اصطدم شعاع أعيننا بعدد الحصى من البشر ، لكننا لو تخطينا الصور إلى المعاني لما رأينا سوى مخلوقات هي أبعد ما يكون عن معنى البشر .

من ثَمَّ كان أصحاب الضمائر والمعاني لا يجدون راحتهم إلا مع الخلوة بعيداً عن أهل الصور المجردة ، وإليك جملة من أقوالهم ووصايهم لمن على شاكلتهم:

• قال العتابي: لم أجد الراحة إلا مع الخلوة ، ولا الأنس إلا مع الوحشة.
• ‏قال لقمان لابنه وهو يعظه: استعذ بالله من شرار الناس ، وكن من خيارهم على حذر.
• ‏قيل لدعبل الخزاعي: ما الوحشة عندك؟، قال: النظر إلى الناس!! ثم أنشأ يقول:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلّهم * الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها*على كثير ولكن لا أرى أحدا

ومن ينظر إلى صور الناس اليوم ويربطها بما تحمله من معاني واخلاق لرأى أصنافاً من البشر وأنواعاً هي أعجب من العجب.

فقد ترى صنفاً هم أندر من الكبريت الأحمر في صورة نجوم وأنوار تتلألأ ، هداة مهديين لا تخلو منهم الأرض ، وهم أوتادها ، بهم تحيا وبهم يحيا بقية سكانها.

ومنهم من تراه على صورة كلب ينبح ، لا تسكنه إلا العظمة أو ما رمٌ من الخبائث ، لا ينقطع نباحه ولهاثه سواء حملت عليه أو تركته.

ومنهم من تراه على هيئة ذئب يعوي ، من أجل أن يسطو على نعجة ليبقر بطنها وينهش ما فيه ، وصنائع المعروف معه لا تخرجه من طبعه السيء ، ولا ينفع معه أدب ولا أديب.
ومنهم من تراه على شكل ثعلب ، يعطيك من طرف اللسان حلاوة ، ثم يروغ وينافق من أجل لعاعة من الدنيا لا تغني ولا تسمن ، ولا يكافء حلو منطقه إلا مرُّ منبته.

ومنهم من ستراه حماراً ينهق من أجل حزمة برسيم أو كف شعير ليحصل عليه ، وظهره ذليل لمن يعطيه يركبه متى شاء.

ومنهم من سيظهر في ثوب ثعبان ، يتلوى من أجل أن يبث سمه في كل من يحتك به.

ومنهم من تراه كالبرص ، لا هو نافع ولا ضار ، بل يبخ ما لا يجني من ورائه إلا العداوة والكره.

ومن من تراه صرصاراً لا يستلذ إلا بما خبث ، ولا يسكن إلا ما عفن.

ومنهم من تراه عقرباً تلدغ بسمها من تعيش معه ، ورحم الله إبراهيم بن أدهم عندما سئل: لم تجتنب الناس ؟ قال:
ارض بالله صاحبا * وذر الناس جانبا
قلّب الناس كيف * شئت تجدهم عقاربا.

ومنهم من تراه خنزيراً ، لا نخوة ولا مروءة ، يبيع لحمه ليأكل به ، ويتاجر في عرضه ليغتني من ورائه.

وهكذا هم البشر كل واحد يعمل على شاكلته ، فمنهم من كانت شاكلته النظر والتدبر والتفكر ، وهؤلاء هم الناس على وجه الحقيقة ، ومنهم من عطّل حواسّه فلا نظر ولا تدبر ولا فكر ، وهؤلاء هم غرس جهنم ، وأضل من البهائم ، وصدق الله العظيم إذ يقول: “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” (الأعراف: 179).

قل كل يعمل على شاكلته. فليختر كل إنسان شكله وشاكلته التي يحب أن يكون عليها.هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى