منوعات

حنان فهمى تكتب: نبتة الخير

كانت تجلس في إحدى غرف دور المسنين المجانية، فهي غير قادرة على نفقات الإعاشة، ولا تملك من حطام الدنيا شيئاً، رأيت فيها جميع المتناقضات التي جعلتني أتساءل من تكون هذه السيدة؛ فهي ترتدي عدساتها القديمة ولكنها ذات ماركة عالمية، وملابس قديمة، إلاَّ أنَّها في منتهى “الأناقة والرقي”. كانت غرفتها منسّقة جدا، فهناك رف كبير عليه كتب كثيرة موضوعة بترتيب، وطاولة عليها زهرية قديمة، لم أشاهد مثلها إلا في مزادات التحف؛ وحول الزهرية تحف صغيرة، وراديو من الطراز القديم، صوته واضح جدا وكأنه حديث، وطاولة أخرى عليها بعض من زجاجات العطور القديمة غالية الثمن ما زال بها القليل من بقايا العطور، وبعض المقتنيات من الحلي القديمة الفاخرة.

كنت أعمل في هذه الدار مسؤولة علاقات عامة منذ عدة أشهر.
لفتت نظري بشدة هذه السيدة التي تشبه أميرات الزمن القديم، هانم من الزمن الجميل.

كانت تختلف تماماً عن المسنات المقيمات معها في نفس الدار.
عندما استلمت عملي أول يوم دخلت للتعرف على جميع المسنات، ولكن عندما دخلت إليها شيء ما جذبني لها، رحبت بي بمنتهى اللطف والرقي ودعتني للجلوس، لاحظت أنها عندما بدأت بالحديث معي أن معظم كلماتها باللغة الفرنسية، فهي تتحدث برقي وهدوء. تعرفت عليها، وقضيت معها وقتا قصيرا، نظرا لانشغالي بأعمال الدار. وقمت بالاستئذان منها لأنصرف، ولكنها قد تركت بداخلي فضولا كبيرا، ظللت أفكر فيها، ومع مرور الأيام لاحظت أن لا أحد يأتي لزيارتها تماما، وأصبحت مع كل يوم يزيد فضولي لمعرفة قصتها، ولماذا لجأت لتلك الدار المجانية، وكل هيئتها تدل على أنها من الأثرياء.

وفي يوم، بعد انتهاء ساعات عملي وبعد إشرافي على تناول جميع المسنات العشاء، قررت الذهاب إلى غرفتها والتحدث معها. وبعد تردد توجهت إلى غرفتها واستأذنتها للدخول.
كانت الابتسامة تعلو وجهها.
رحبت بي ودعتني للجلوس بجوارها، وبدأنا بالحديث وصارحتها بفضولي تجاهها، ولماذا هي هنا في هذه الدار المجانية، نظرت لي وابتسمت؛ وقالت: إنني لست أول من يسألها هذا السؤال، وإنها كانت تأبى الرد، ولكنها الآن ستقص علي قصتها.

قالت لي إنها كانت الابنة الصغرى لأحد رجال الأعمال الذين كانوا من أثرياء البلد، وإنه كان يغدق كثيرا على الفقراء، وكان حريصاً على توزيع أموال الزكاة وفعل الخير دائماً، وأنه كان مشغولا بالبحث عن عمل خير يفعله ليكون صدقة جارية تنفعه في الآخرة، فقرر شراء أرض كبيرة يبني عليها داراً مجانية للمسنين الفقراء، لمن ليس لديهم المقدرة على سداد وتحمّل نفقات دور المسنين الأخرى، ولكنّ القدر لم يمهله ليكمل هذه المسيرة، توفي والدها وبعده بعامين توفيت أيضاً والدتها، وتركا لها ولشقيقتها ميراثا كبيرا، تمت قسمته بينهما، وبعد فترة للأسف مرضت أختها الكبرى بمرض لا شفاء منه، ولم تكن تزوجت، فقررت أن تتبرع بجزء من نصيبها للبدء في بناء دار المسنين التي كان والدها يحلم بها لتكون هي الصدقة بعد وفاته، ووفاتها، وكانت هي قد تزوجت بعد وفاة والدها وأنجبت ولداً وحيدا، وفي أثناء هذا الوقت كانت تمتلك الكثير من المال، يجعلها تستطيع تحقيق رغبة شقيقتها ووالدها،

فقامت بالفعل بمشاركة شقيقتها ببناء هذه الدار على أحدث ما يكون، كما كان يرغب والدهما، وسلمتاها للشؤون الاجتماعية، ومرت السنون، وتعرض زوجها لأزمة مالية كبيرة، ساندته وقتها بكل ما تملك من أموال، ولكن القدر حرمها منه أيضاً. توفي زوجها وترك لها مسؤولية تكملة المشوار مع ابنهما الوحيد، وأيضاً تولت الإنفاق على علاج مرض شقيقتها التي قد أفلست من كثرة نفقات هذا المرض اللعين، إنّه المرض الذي لا يقف أمامه غني ولا فقير إلا بمعجزة من الله، لم يمر وقت كثير إلى أن رحلت الشقيقة إلى بارئها، وأصبحت هي وحدها في هذا العالم، وأكملت تعليم ابنها، وكالعادة تدور رحى السنين، ويتزوج الابن ويستقل بذاته، ويخرج ليعيش مع زوجته بعيداً بعد أن رفضت زوجته وجودها معهما، وحزم الابن أمتعته وهاجر للخارج، وكانت الأم قد باعت آخر ما تملك وهو “منزلها” من أجل نفقات تعليم ابنها، واستأجرت شقة صغيرة لتعيش فيها أيام عمرها المتبقية؛ وبعد أن ضاقت عليها سبل العيش وبدأ المال ينضب، انتقلت لتسكن في غرفة صغيرة في منزل بسيط بسبب غلاء الإيجارات والمعيشة،

وذات يوم وهي تتسوّق، كان معها موعد مع الصدفة، وقعت عيناها على ابنة لصديقة لها من زمان، تعمل في الشؤون الاجتماعية وذات مركز كبير، وعلمت منها كيف أصبحت بلا مأوى، فوجدتها تطلب منها موعداً لكي تأتي وتأخذها لمكان سوف تقيم به وتجد به رعاية كبيرة وبالفعل وافقت، وذهبت إليها في الموعد المحدد، وجدتها تصطحبها إلى دار مجانية للمسنين، وكانت المفاجأة، إنها الدار التي اشترى والدها أرضها، وأكملتها هي وشقيقتها.

تَنَهدت في رضا وأكملت معي قصتها وهي تتحدث وعلى وجهها نفس الابتسامة، رغم ما تعانيه من ألم يسكن قلبها، قالت: أعطوني هذه الغرفة الجميلة التي أقمت بها منذ عامين.

أنهت حديثها وعلى وجهها علامات الرضا وابتسامة جميلة وهي تخبرني أن فعل الخير لا يضيع هباء. وجدت نفسي بدون أن أشعر أبكي، وقد تعلمت درسا كبيراً؛ أن نبتة الخير تنمو ولا تموت مهما طال الزمن، وإن رويت بماء صالح فسوف تنمو مع الوقت، ربما ليس سريعًا، ولكن مع مرور الأيام ستنبت ويأتي يوم وتحصدها.

زر الذهاب إلى الأعلى