دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب : الشاردون عن الله

“إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ” (المجادلة: 20). الشاردون عن الله تعالى أصناف شتى ، فمنهم الشارد لقلة عقله وغلبة شهوته وانطماس بصيرته ، ومنهم الشارد لحبه العاجلة وإعراضه عن الآجلة ، ومنهم الذي شرد استكباراً وعتواً ، وذهب به الكبر مذهباً حادّ معه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فكأنه جعل له ملكاً محدوداً بحدود زعم أن مولاه لا يتعداها إليه ، وغرّته نعم الله عليه من كثرة أعوان ، أو عزٍّٕ وسلطان ، وربما فتنوا كثيراً من الناس بهذا الغرور ، لذا شاءت حكمة الله تعالى وقدرته أن يجعل هؤلاء المغرورين أذلّ خلقه في الأولين والآخرين ، فقضى عليهم أن يكونوا أسافل الناس في الدنيا والآخرة.

ولا ريب أن ذلّ الخصم يكون بقدر عزّة من يخاصمه ، ولمّا كانت عزّة الله تعالى غير متناهية ولا حدّ لها ، فلا بدّ وأن تكون ذلة هؤلاء كذلك ، هذا من ذاك ، ولقد ضرب الله لنا في سير الأولين أمثلة أولئك الأباعد ، وذكر لنا ما لحقهم من ذلة وصغار ، وضعة وهوان ، ما جعلهم مضرب الأمثال.

فكلنا يعرف ما حاق بذلك الملك الذي جعله الله أحد من ملكوا الدنيا ، لمّا تجبر وتكبر وحادّ الله ونازعه ملكه ، أذله الله على رؤس الأشهاد بأن سلط عليه ذبابة دخلت من أنفه واستقرت في رأسه ، فكانت إذا تحركت لا يهدأ حتى يضربه خدمه بالنعال على رأسه.

كذلك كانت عاقبة القوم الذين أنعم الله عليهم بأنبيائه ورسله ، عندما عتوا وتكبروا ، مسخوا قردة وخنازير ، إلى غير تلك الأمثلة والنماذج التي روتها لنا كتب الأولين.

وإن من الذل الذي قضاه الله تعالى على هؤلاء المغرورين قبح سيرتهم بين الناس ، فلا يذكرهم ذاكر إلا وأضاف إلى ذلّهم ذلّا ، وخزيهم خزيا ، ولا شك أن ذلك يكون وبالاً عليهم وهم في قبورهم فتضيف إلى عذابهم عذاباً.

إن الناس جميعاً يذهبون حتماً ليصبحوا رهائن قبورهم ، وشهود الحق المتمثلة في ألسنة الخلق ، إما أن تفسح لهم في قبورهم مدّ أبصارهم ، وإما أن تضيق عليهم قبورهم حتى تختلف فيها أضلاعهم ، وذلك بما تصدره عليهم من أحكام أجراها الله تعالى على ألسنتهم وأنطقهم بها كما انطق كل شيء.

وإن من الذل الذي حكم به عليهم ربهم يوم القيامة أن يصبح هؤلاء الأشاوس في ذلك اليوم العظيم أحط خلق الله منزلة ، وأقلهم اعتباراً، وأخفهم وزناً ، حتى يؤتى بالرجل السمين الذي كان بنفسه مغروراً وبماله وسلطانه مفتوناً ، فترى البعوضة أعظم منه ، حتى لا يبلغ وزنه وزن جناح منها ، روى البخاري في صحيحه عن ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: “ﺇﻧﻪ ﻟﻴﺄﺗﻲ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﻈﻴﻢ اﻟﺴﻤﻴﻦ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻻ ﻳﺰﻥ ﻋﻨﺪ اﻟﻠﻪ ﺟﻨﺎﺡ ﺑﻌﻮﺿﺔ”.

ليس هذا وحسب ، بل يحشرون بين الخلائق يوم القيامة أمثال الذر لهوانهم وذلهم عند الله تعالى ، روى الحميدي في مسنده ﻋﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: “ﻳﺤﺸﺮ اﻟﻤﺘﻜﺒﺮﻭﻥ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺃﻣﺜﺎﻝ اﻟﺬﺭ ﻓﻲ ﺻﻮﺭ اﻟﺮﺟﺎﻝ ﻳﻐﺸﺎﻫﻢ اﻟﺬﻝ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻜﺎﻥ، ﻳﺴﺎﻗﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺳﺠﻦ ﻓﻲ ﺟﻬﻨﻢ ﻳﺴﻤﻰ ﺑﻮﻟﺲ، ﺗﻌﻠﻮﻫﻢ ﻧﺎﺭ اﻷﻧﻴﺎﺭ، ﻳﺴﻘﻮﻥ ﻣﻦ طينة الخبال ﻋﺼﺎﺭﺓ ﺃﻫﻞ اﻟﻨﺎﺭ”.

فيا أيها الإنسان عد إلى ربك ولا تنس نفسك وأمعن النظر فيها ، فكل ما فيها يدعوك إلى التواضع والإخبات ، وذم الكبر والبعد عنه ، فمخلوق الفرث والدم لا يخلو منهما جوفه كيف يتكبر.

وأختم بقول ابن الجوزي رحمه الله:
قل لمن فاخر بالدنيا وحامى * قتلت قبلك سامًا ثمّ حاما
ندفن الخِلَّ وما في دفننا * بعده شك ولكن نتعامى
إن قدامك يومًا لو به هددت * شمس الضحى عادت ظلاما
فانتبه من رقدة اللهو وقم * وأنف عن عين تماديك المناما
صاح صح بالقبر يخبرك بما * قد حوى واقرأ على القوم السلاما

فالعظيم القدر لو شاهدته * لم تجد في قبره إلا العظاما
نسأل الله تعالى برحمته الواسعة أن يكفينا شرّ نفوسنا وأن يجعلنا ممن رفعهم فتواضعوا ، ومنّ عليهم فأخبتوا.

زر الذهاب إلى الأعلى