Site icon بوابة العمال

رؤية انطباعية لمجموعة  “فيما يرى الفاهم ”  

 

بقلم د. إنجى البسيونى

 

قبل أن أبدأ فى كتابة رؤيتى الانطباعية عن مجموعة “فيما يرى الفاهم ” فأنا لا أخفى عليكم أنى وقعت فى إشكاليتين  غاية فى الصعوبة كانتا سببا فى تأجيل كتابة رؤيتى الإنطباعية للمجموعة  ، أولاها أن الكاتب هذه المرة هو الشاعر والإعلامى والناقد الفذ الأستاذ “السيد حسن” و ما له من تاريخ حافل على كل المستويات الشعرية والنقدية والثقافية والإذاعية وبالتالى فنصوصه تحتاج إلى ناقد بحجمه أو على الأقل قامه أدبية على قدره ، وليس إلى متذوق لا يمتلك عمق التجربة النقدية مثلى أنا.

والثانية هو أن ا. السيد حسن هو أول من يقوم بنقد أعمالى المتواضعة بل وهو من علمنى أصول النقد وأبجدياته الخاصة، فهو الناقد الذى لا يشق له غبار فى سبر النصوص: الرمزى منها قبل المباشر، لذلك كان كتابة رؤيتى  هذه المرة غاية فى الصعوبة  وخفت من أن ينطبق على بيت الشعر القائل

“أعلمه الرماية كل يوم …. فلما اشتد ساعده رمانى”

على أية حال سأستغل خلقه الرفيع، وذوقه الجم، وتواضعه مع الجميع، وأكتب رؤيتى التذوقية وليست النقدية .

فالأديب السيد  حسن يدرك جيدا وهو الحصيف الخبير فى عالم الأدب بأن من يقوم بكتابة قصة قصيرة فعليه بشيئين غاية فى الأهمية، وقد تمسك هو بهما جيدا فى نصوصه وهما:

أولا : يجب على  الكاتب أن يقوم باختطاف قارئه بأسلوبه اللغوى الرصين وأبجديته المكينة،  لذلك جاءت لغته الجزلة تتسم بالعمق والمرونة فى آن معا  دون تقعر لفظى مع أنه الأقدر عليه ، فكان يصوغ الرؤى ويرسم المشاهد بالكلمات والعبارات الشاعرية الرقيقة، والتى نجحت جدا فى تحليل الشخصيات وسبر أعماقها، ليصوغ لنا  مشاهد مرئية بديعة بأسلوب رصين ولغة قمة فى البلاغة متمسكا بفصحته السامقة فى لغة السرد، ولم لا وهو  خاقان الفصحى وعاشقها وسادنها الأمين؟

 

ثانيا : البراعة فى صياغة وبلورة (فكرته الخاصة)  التى يريد إيصالها للمتلقى وهو متفوق فى ذلك غاية التفوق ،  فلكل قصة قصيرة فكرة وهدف وعبرة  يجب أن تصل الى القارئ دون تشتت أو التباس، وهنا تبرز براعة الكاتب ومهارته فى التكثيف والتركيز، و تبرز صعوبة هذا الجنس الأدبى من الكتابة فى أن الكاتب مضطر إلى أن يختزل العبارات ويكثفها قدر المستطاع وفى الوقت نفسه لا يؤدى هذا الاختصار إلى بتر  مضمون الحكاية، وذلك لأن المدى الزمنى والوصفى المسموح به للقاص يقيده فى كشف معالم شخصياته الفكرية والنفسية ، ولكنه بالرغم من ذلك أوقف القارئ ببراعة على فهم حيثيات شخوص القصص واستيعاب  أبعادها النفسية .

_ جاءت المجموعة البديعة فى عشر قصص تتسم  بالتناسق والسيمترية  الشديدة، فلا تطول قصة على حساب أخرى بل جاءت متناسبة ومتسقة من حيث المساحات النصية  إلا فى قصة واحدة جاءت كومضة، و جاءت النصوص تارة بلسان السارد العليم وتارة أخرى  بلسان الراوى المتكلم، كما جاءت مساحة لغة السرد أكبر من مساحة  لغة  الحوار مما أضفى عمقا أكبر على  النصوص، أما عتبة النص، المتمثلة فى العنوان،  فقد وقع اختيار كاتبنا على أروع قصة فى المجموعة_ من وجهة نظرى_  ليتوج عنوانها  على غلاف المجموعة وهو ” فيما يرى الفاهم “،  وهو عنوان يفتح شهية القارئ على الفعل القرائى، وقد وفق هذا العنوان جدا فى تحقيق الوظيفة القصدية للحكاية والذى يدل على أن الكاتب يفهم جيدا  الشخصيات  ويحللها  بعيون المدرك  والخبير والفاهم لتلك الشخوص المتعددة المشارب والمتنوعة الأطياف ، فجاء العنوان فى واقع الأمر واصفا و كاشفا ودالا على شخصية الكاتب وليس كعنوان أحد القصص وفقط ، و نبدأ بتحليل القصص باختصار:

*سلطان الدومينو

شرح لنا الكاتب خلفية القصة بوضوح شديد دون أن يخل بشرط التكثيف، وامتلك القاص  قدرة إيحائية كبيرة  على إفهام  المتلقى مقتضى حال الشخوص، وجعلنا بالفعل  نتأثر ونحزن مع البطل و ما آل إليه حاله، ونعيش التخوف من المصير نفسه، وهنا تبرز قدرة النص على  مخاطبة الوجدان  وجلب  تعاطف القارئ، وتوظيف التعبيرات المفعمة بالمشاعر الانسانية التى تلامس إحساس المتلقى وتؤثر فيه .

 

*سيول من النافذة

هذه القصة التى يرويها الطفل  الذى عاصر  حدثا عظيما حزينا على مصر عامة  وهو وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، والذى وجد نفسه يسير فى قريته  فى ركب جنازة تخيلية خلف نعش فارغ كنوع من المشاركة الوجدانية لوفاة الزعيم  من أهل قريته” ميت أبو غالب”، وفى نهاية مطاف ذلك النعش الفارغ تم رسم نجمة سداسية على قماشة بيضاء ثم حرقها فى وسط صياح وحماس الجميع، ليس فقط تعبيرا  عن استعدادهم لاستكمال مسيرة البطل الراحل فى تحرير الأرض المحتلة ، بل وتواطؤا مع  ابن قريتهم “مدكور أبو العز” القائد العسكرى الذى أعاد بناء القوات الجوية بعد النكسة مباشرة، وشن أول غارة جوية على الجيش الاسرائلى فى سيناء المحتلة ، سببت للجيش الاسرائيلى  خسائر فادحة  والتى بدورها دفعت  موشى ديان بالتوعد بالانتقام من مدكور وضرب بلدته ميت أبو غالب كلها، فكان الأمر وكأنه ثأر خاص  وسبب  آخر للكراهية من أهل هذه القرية الأبية، فنجح فى تصوير الأبعاد النفسية والفكرية لأهل القربة ومدى وعيهم السياسي وانتمائهم الوطنى بدقة وبراعة  .

*ثلاثة عشر خطوة

أقصوصة، أو ربما ومضة  لطيفة معبرة كاشفة عن  بائعة الخضار  التى كانت تغازل ذلك العابر بنظراتها كلما مر أو عبر ، من أمامها، والذى تعمد تجاهلها بالرغم من إدراكه ماترمى إليه وعندما فقدت الوعي مغشيا عليها والتف حولها الناس لإفاقتها ، فإذا بها تجده بين الملتفين فيدفعها الحنين لقول عبارة ربما اعتادت قولها من أجل تسويق بضاعتها ، لكنها فى الواقع كانت تعبر عن مقتضى حالها ومحبتها له ، ألا وهى عبارة:

“يا دوا التعبان يا نعناع”

 

* العهد

يجد القارئ نفسه يسير فى الركب  مثل الصبى فى ذلك المولد الذى نجح الكاتب فى وصف تفاصيله الدقيقة ببراعة شديدة  وبلغة طيعة وتصوير بليغ ووصف شاعرى  جعلتنا وكأننا معه نرتاد ذلك المولد، والقارئ الحصيف يلاحظ  تميز الصبى عن باقى رواد المولد  من أول القصة منذ ركوبه البغلة الشهباء بشمم، وكأن ذلك إيعاذا وتمهيدا لتميزه بأن وقع عليه الاختيار و استلام العهد من شيخ الطريقة.

 

 

*الطرحة

ثم تأخذنا أقصوصة الطرحة اللطيفة إلى ذكريات كل منا مع جدته، وكأن الكاتب  يتكلم بلسان الجميع بلغته المعبرة المؤثرة ، ويحكى عن  تلك العجوز الحنون المسئولة والتى بالرغم من حزنها لفقد ولدين من أولادها ظلت رابطة الجأش قوية البأس، مكملة دورها فى رعاية أحفادها بحنان واحتواء شديدين، فأبرز الكاتب من خلال القصة طاقة تعبيرية قوية نجحت فى اختطاف القارئ إلى عالمه الخاص.

 

* ميريت

ركب بنا  آلة الزمن فى تاريخنا التليد  لنصل معه إلى  الأسرة الثامنة عشرة أسرة الملك إخناتون أول موحد فى التاريخ وعلاقته القوية  بزوجته نفرتيتى  واعتناقها لعقيدته وحبها واخلاصها له.

ونقل لنا  الكاتب مشاهد من تاريخ مصر القديمة وجسد صراعات كهنة آمون وحربهم للمعتقد الجديد الذى أرهبهم و هز عروشهم. وكان اختياره  لاسم ميريت ليكون اسم القصة والبطلة أيض ، والذى هو فى واقع الأمر الاسم الحقيقى والفعلى لابنة نفرتيتى التى تولت مهام أمها بعد وفاتها وكانه يقول لنا إن البطلة امتداد لنفرتيتى الجميلة رمز الوفاء والمحبة ، وكأن ميريت هى المعادل الموضوعى للوفاء والإخلاص للعهد

 

*الكاشف

قصة بديعة تحمل من المتعة بقدر ما تحمل من العمق ومن دلالات المعانى المؤثرة فى النفس ، وقعت فى حبها بشكل شخصى لما تشتمل عليه من الرموز الدينية والترميز الفلسفى

سأبدا باسم البطل راوى القصة “الكاشف” الذي ارتبط اسمه بكنه الحكاية فهو كاشف لأسرار الموتى ولكنه كشف صامت بينه وبين ذاته، عاش يستنكه الملامح ويقرأ الوجوه، ولكنها وجوه سافرت من دنيانا الى عالم آخر على اختلاف مصائرها، تلك المصائر التى تنطبع جلية على  ملامحها أمام ناظريه  ، فأجابنا عن صمت الأسئلة ببوح ولكنه بوح  مكتوم

حتى جاءت لحظة المكاشفة فى السطر الأخير فى جملة عابرة ولكنها تعادل زمناً من الشعور ، إنها الجملة التى تحمل مفاجأة للقارىء وحفظت للخاتمة صدمتها وهنا يتجسد الإبداع الفنى والدرامى للكاتب  إلى جانب الإبداع الأدبى.

 

*أم وحيد

قصة مؤثرة تلعب على الوتر الإنسانى للقارئ ، وتثير تساؤلاته ، وعندما ينتهى القارئ من القصة يجد أن مشهد النهاية ارتبط بأول سطر فى القصة   بشكل دائرى وكأن السطر الأول هو اجابة السؤال وحل اللغز .

 

*الطبلية

حديث نفس لبطل القصة الذى يعانى الغربة فى ثكنته العسكرية والذى  يجتر الذكريات الأسرية الجميلة فى أكثر الشهور حميمية ودفء  وهو شهر رمضان المعظم فيسهب الكاتب  فى وصف الشخصيات بريشة فنان محترف ويرجعنا للدفء الأسرى فى مرحلة الطفولة والصبا والذى افتقدناه جميعا بلغة معبرة مؤثرة فى النفس.

 

*فيما يرى الفاهم

وبذكاء شديد يختتم الكاتب  مجموعته بقصة غاية فى  الشاعرية والرومانتيكية تتبلور فيها شعرية اللغة وروعتها  بمفرداتها العذبة وخيالها المجنح ،

وكأنها قصيدة شعرية نثرية  قد حاول قبلها التخفى فى عباءة القاص ببراعة شديدة لتأتى هذه القصة و تكشف هى عن هوية الشاعر  ومكنون إبداعه الأصلى والرئيس ، وسأختم مقالى بنص  بديع من هذه القصة لتكون مسك الختام .

 

“رَأيتُ فِيمَا يَرَى الفَاهِمُ خُيُولاً تَمرَحُ فِي العَينَينِ السَّودَاوَينِ، وَتُوشِكُ أَن تَدهَمَنِي، ووَلَولا أَنَّي حَوَّلتُ عَينَيَّ بَعِيدَاً، متنحياً عَن طَرِيقِهَا فِي الَّلحظَةِ الأَخِيرَةِ، لَكُنتُ الآَنَ صَرِيعَ الخُيُولِ، قَتِيلَ العَيُونِ، شَهِيدَ الغَفلَةِ.

بِي غَرَامٌ قَدِيمٌ بِالعُيُونِ وَحَدِيثِهَا وَبَوحِهَا وَتَحلِيقِهَا وَدَعوَتِهَا لِلتَّحلِيقِ، لا أَعرِفُ هَل مَا عشتُ أَقرَؤهُ فِي تِلكَ العُيُونِ كَانَ مَكتُوبَاً فِيهَا بِالفِعلِ، أَم أَنَّنِي أَنَا الَّذِي كُنتُ أََسكُبُهُ فِيهَا مِن ذَاتِي المُجَنَّحَةِ، وَمِن خَيَالِيَ الهَائِمِ، وَمِنْ شَوقِيَ الدَّفِينِ إِلَى الجَمال.”

 

إنها حقا مجموعة تليق بصاحبها وبتاريخه العريق فى الشعر  والأدب ، خالص التقدير  و صادق تمنياتى بأن تلقى ما تستحقه من ا

ومقروئية وانتشار .

 

Exit mobile version