دين و دنيا

د.حسنى ابوحبيب يكتب: روح العبادة وعلامة إلافلاس

“فادعوا الله مخلصين” (غافر: 14).الإخلاص روح العبادة ومادّة حياتها وسرّ قبولها ومعراجها إلى ربها ، ولا يقبل الله من الأعمال إلا ما كانت صالحة ، ومن العبادات إلا ما كانت لوجهه خالصة ، وصلاحها موافقتها للشريعة، وإخلاصها كونها لله على الحقيقة. ومعني القول الكريم: اعبدوا الله وحده مخلصين له العبادة والدعاء ، وهذا أمر الله لعباده كافة ، قال تعالى: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدين”(البينة: 5).

فمن قصد الله تعالى بعبادته فقد تمسك بأقوى سبب ، ونال مبتغاه بلا تعب ، فمن أخلص تخلّص ، ومن قصد غيره خاب ، وعدم الإخلاص علامة إفلاس ، ومن علامات الإخلاص أن يعرف العبد ربه ديمة ، ويكون عمله له كذلك ، فلا يكون عبدَ المواسم والمناسبات ، يقول ابن القيم في عدة الصابر وذخيرة الشاكرين: مدار الدين على أصلين: الثبات والعزيمة ، أي: عزم على الطاعة وثبات عليها ، وهما مجموعان في دعائه صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد” .

وقبول أي عمل وبقاؤه مرهون بالإخلاص فيه ، فما كان لله دام واتصل ، وما كان لغيره انقطع وانفصل ، وما كان لله فقليله كثير ، ومقطوعه موصول ، ومتفرقه مجموع ، وهو دائم متصل ، أما ما كان لغيره فكثيره قليل ، وعظيمه حقير .

فالإخلاص هو باب البر كله ، فالفائز السعيد من رضي بفعل الله به وأخلص في فعله لله. والإخلاص كما يقول السوسي: هو فقْدُ رؤية الإخلاص ، فإنّ من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص.

والسابقون الأولون ومن اتبعوهم بإحسان إنما خلّد الله ذكرهم وأبقى أثرهم لإخلاصهم له ولصدق توجههم إليه ، فلم يقدر الدهر على إزالة ذكرهم أو محو آثارهم ، فترى العالم والأمي والكبير والصغير يعرف سيرهم أكثر من معرفته لسيرة أبيه وجده.

ومن خلت أعماله من الإخلاص فهو نسياً منسياً حتى وإن كان يذهب إلى هنا وهناك ، فإن ذكر فلا يذكر إلا بالسيء من القول ، وكلما تظاهر بالطاعات كانت طاعاته سبباً في مقت الناس له ، لأنها طاعات خلت من النور ، وربما أراد أن يتزيّّا بزيّ المخلصين فبكى وتباكى ، لكن هيهات فربّ القلوب يحول بينه وبينها ، وقديماً قالوا: إذا تمكّن النفاق من قلب الرجل ملك عينيه يرسلهما متى شاء.

وليس أقبح ممن لا يعمل لله إلا من يعمل لغيره ، فليس هناك أخسر ممن يعمل للفاني ويترك الباقي ، ومن يُقدّم للمملوك وينسى المالك ، فهؤلاء المنافقون أبعد عن الله من غيرهم ، وأضل سبيلاً ممن سواهم ، فهولاء عملهم عناء ، وبكاؤهم رياء ، وأعمالهم تصير يوم القيامة هباء ، “وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً” (الفرقان: 23).

ورحم الله أبا العلاء المعري إذ يقول:
لَعَلَّ أُناساً في المَحاريبِ خَوَّفوا * بِآيٍ ، كَناسٍ في المَشارِبِ أَطرَبوا
إِذا رامَ كَيداً بِالصَلاةِ مُقيمُها * فَتارِكُها عَمداً إِلى اللَهِ أَقرَبُ.
ظن كثير من الناس أن تقربهم للناس أنفع لهم من تقربهم لرب الناس ، فعملوا للناس وتركوا ربّ الناس ، فأوكلهم ربّ الناس للناس ، فوقعوا فريسة للوسواس الخناس.

عباد الله أخلصوا لله يدهشكم الله بعطائه ، فعطاؤه ليس مقصوراً على المال أو الجاه والمنصب ، عطاؤه جلّ في علاه أوسع وأشمل ، عطاؤه راحة قلب ، وسكينة نفس ، وسعادة روح ، وأنس به ، وحسن توكل عليه.

المخلصون وحدهم هم من يأنسون به تعالى ، ويسعدون بمناجاته ، ويفرون من الخلق إليه ، قيل لبعض الرهبان: ما أصبرك على الوحدة !!! فقال: ما أنا وحدي ، أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه ، وإذا شئت أن أناجيه صليت له.

لذا قيل: إِذَا أراد اللَّه أَن ينقل عبده من ذلّ المعصية إِلَى عز الطاعة. آنسه بالوحدة ، وأغناه بالقناعة ، وبصره بعيوب نَفْسه ، فمن أعطي ذَلِكَ فَقَدْ أعطي خير الدنيا والآخرة.

فسبحان من أذاق قلوب العارفين به من لذة الخدمة له، وحلاوة الإنقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان ، وعن الحور الحسان ، وجمع همهم في ذكره ، فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته.رزقنا الله وإياكم الإخلاص والثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.

زر الذهاب إلى الأعلى