دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب: نعيم الجنة تحت اقدام مريم

“قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ” (آل عمران: 37). الموصولون بالله تعالى لا حاجة لهم إلى سبب ، وليس في هذا ثمّة عجب ، فيقينهم بخالق السبب يغنيهم عمن سواه ، وإن تعاملوا مع السبب فإنما هو فقط تأدّباً مع خالقه ومولاه ، وصفاؤهم على قدره يكون عطاؤهم.

وهذا القول الكريم جاء على لسان سيدنا زكريا عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم في صورة سؤال قاده إليه التعجب من أمر تلك المحرَّرة الفاضلة ، فقد كان كلما دخل عليها محرابها – وهو مكان إقامتها وعبادتها بالكنيسة – وجد عندها فاكهة وطعاماً وشراباً ليسوا عند أحد من الناس ، مما لم يعهده زكريا ولا رآه من قبل ، ولا ريب في ذلك فقد كان كل ذلك من أطعمة الجنة وفاكهتها وشرابها ، وكأنه يقول لها بأي عبادة يا ابنت عمران بلغت ما بلغت حتى نُقل نعيم الجنة حيث قدميك وأنت لا تبرحين محرابك ؟!!!.

عندئذ أجابته بلسان الواصل الموصول: “هو من عند الله”. ذلك الإله العظيم الذي يعطي الهديّة على قدر النيّة ، فهو يمنح كل من توكل عليه بلا أسباب ولا حساب ، “إن الله يرزق من يشاء بغير حساب”. أي ما تراه يا زكريا ليس من عند بشر ولا يستطيعه بشر ، وإن أردته فعليك ترك الاتكال على الأسباب وأحسن التوكل على مسببها ، واحفر في كنز نفسك ، ودعك مني فمن توكل على كنز غيره فاته كنزه ، فافتقر إلى الله وتبتل إليه يفض عليك بما يُدهش عقلك ، “إنما الصدقات للفقراء” (التوبة: 60).

لمّا سمع من كلامها ما سمع ورأى من أمرها ما رأى ، عندئذ تجرّأ على دعوة مولاه دعوة خفية أن يحقق له ما يصبوا إليه ويتمناه ، وإن فات وقته ، وبطل سببه ، فسأله الولد بعد أن اشتعل رأسه ووهن عظمه ، وشاخت وعقمت زوجه ، فكان له ما سأل ، “هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ * فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى” (آل عمران: 38 ، 39).

لكن أمر تلك السيدة العظيمة في حسن التوكل على ربها وتمام يقينها به نراه يختلف عندما بُشرت بولد ، فتساءلت متعجبة بقولها: “أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر” (آل عمران: 47). ولقائل أن يقول: كيف استبعدت ولادتها فعللت ذلك بمسبب البشر لها، وهي لَا تدري ما يكون من أمرها ؟ يقول ابن عرفة في تفسيره لهذا: إنها قالت ذلك لأنها تعلم أنها منذورة محررة للمسجد، والمنذور المحرر للمسجد لَا يتزوج ولا يولد له.

ولأنها سألت عن السبب في لحظة ربما قلّ فيها يقينها برب السبب ، لغرابة ما سمعت ، فوكلها الله للسبب ، فأمرها به ، في قوله تعالى: “وهزّي إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً” (مريم: 25). طالما سألت عن السبب فلا بدّ وأن تأخذي به ولو تركت السؤال ولم تتعجبي من أمرنا لأطعمناك الرطب دون هزٍّ كما كنا معك في بدء أمرك. فمن يطع أمرنا نخرق له قانون أسبابنا ، ونُفض عليه من غير تعب رزقنا.

وعندما نطالع سير أنبياء الله ورسله ، نرى أن الله خرق لهم قوانين السببية لحسن توكلهم عليه ، وصدق التجائهم إليه ، فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام تتحول النار له برداً وسلاماً “قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ” (الأنبياء: 69) ، وهذا سيدنا داود لان له الحديد ، فكان بين يديه كالعجين بين يدي خبّازه “وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ” (سبأ: 10). وهذا سيدنا موسى عليه السلام بضربة من عصاه شُق له البحر حتى صار كل شق منه كالجبل الأشم ، “فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ” (الشعراء: 63) ، وتعود الحياة للموتى بإن باريها على يد سيدنا عيسى عليه السلام، “وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي” (المائدة: 110) ، أما سيد الواصلين والموصلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فمن يطالع سيرته يجد أن خرق قانون السببية كرر له أكثر من مرة ، فقد كان يبيت يطعمه الله ويسقيه، وكم جيء إليه بطعام لا يكفي واحداً من الناس بلمسة من يده الشريفة أشبع ذلك الطعام جيشاً ، إلى غير ذلك من معجزات.

وكذا الواصلون من أولياء الله تعالى فلكم أعطاهم الله بلا سبب ، ورزقهم بلا تعب ، لما أحسنوا عليه التوكل ، وأخلصوا له العمل ، ذكر ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة عن الليث بن سعد قال حججت سنة ثلاث عشرة ومائة فأتيت مكة فلما أن صليت العصر رقيت أبا قبيس فإذا أنا برجل جالس وهو يدعو ربه بعد أن مجده وأثنى عليه يسأله بقوله: اللهم اني اشتهي من هذا العنب فاطعمنيه اللهم أن بُردي قد اخلقا (أي إن عباءتي وملابسي قد بُليا) . قال الليث فوالله ما استتم كلامه حتى نظرت إلى سلة مملوءة عنبا وليس على الأرض يومئذ عنب وبُردين موضوعين فأراد أن يأكل فقلت أنا شريكك فقال لي تقدم وكل ولا تأخذ منه شيئا. فتقدمت فأكلت شيئا لم آكل مثله قط وإذا عنب لا عجم له فأكلت حتى شبعت والسلة بحالها ثم قال لي خذ احب البردين إليك فقلت له أما البردان فأنا غني عنهما. يقول الليث فسألت عنه فإذا هو جعفر بن محمد الصادق حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يكفينا أن نحسن التوكل ونخلص العمل ، ولا نتعامل مع الأسباب إلا تأدباً وطاعة لأمر ربنا ، فلا نهمل الأخذ بالسبب لكن ثقتنا لا تكون إلا في رب السبب.

فاللهم يا واصل المنقطعين صلنا إليك ، وهب لنا من لدنك وصلاً تطمئن له قلوبنا ويقوى به إيماننا.

زر الذهاب إلى الأعلى