د. حسنى ابوحبيب يكتب : أسمى درجات الصبر
“وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ” [آل عمران: 144] من الغريب العجيب أن يأتي هذا القول الكريم مُزيّلاً لآية ذكّرت المسلمين ونبّهتهم لموت نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ولمفارقته إيّاهم في يومٍ من الأيام ، فإن لم يكن في هذا اليوم ففي قابله من أيام الزمان ، فسيأتي حتماً ما لا بدّ منه، ولا مناص عنه ، “وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ” [آل عمران: ١٤٤] .
ليستيقظ النائم من غفوته، وينتبه الغافل من غفلته، ويثبت الشاكر على شكر نعمته، حتى لا يُصدم المسلمون متى فُجعوا بنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، ليظلوا ثابتين على هذا الدين فعبادتهم لله وحده لا لأحد من خلقه أيّاً كان ، فهذا الأمر حقيقة لا مجاز ، والإيمان به وجوب لا جواز، “وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ” [الأحزاب: 71].
ولقد كان لهذا القول الكريم فضل على المؤمنين وأي فضل ، إذ به استطاع سيدنا أبو بكر رضي الله عنه أن يردّ من تزعزع يقينه بموت سيد الخلق إلى جادّة الصواب والحق ، فما إن تلاها على مسامع المسلمين حتى عادوا لصوابهم ، لذا استحق سيدنا أبو بكر أن يُطلق عليه سيدنا الإمام علي: أمير الشاكرين. لثبوته في هذا الموطن. [تفسير ابن عطية].
يقول فضيلة الدكتور سيد طنطاوي: رحمه الله وعبّر الله هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين مع أن الصبر في هذا الموطن أظهر، وذلك لأن الشكر في هذا المقام هو أسمى درجات الصبر، لأن هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب النبي صلّى الله عليه وسلّم في ساعة العسرة، لم يكتفوا بتحمل البلاء معه فقط، بل تجاوزوا حدود الصبر إلى حدود الشكر على هذه الشدائد التي ميّزت الخبيث من الطيب، فالشكر هنا صبر وزيادة، وقليل من الناس هو الذي يكون على هذه الشاكلة.
ما أريد قوله: إن كثيراً من الناس لا يُحسنون أن يُفرقوا بين المنح والمحن ، وبين العطايا والبلايا ، فتراهم ربما سُرّوا عند المحن لظنهم أنها منح ، وفرحوا عند البلايا لتخيّلهم أنها عطايا ، والعكس حتماً كائن منهم ، لذا قد ترى الواحد منهم في مِحَنِه فرحاً فخوراً ، وفي مِنَنِه يائساً كفوراً ، لا ينجو من ذلك إلا من أنار الله تعالى له عين قلبه ، وأمدّه بنور من فيضه ، هؤلاء هم القليلون من بين الناس ، الشاكرون الصابرون في السراء والضراء وحين الباس ، أولئك من قال تعالى عنهم: “وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ” [سبأ: 13].
كلُّنا يعلم أن هذا القول الكريم الذي صدّرت حديثي به نزل مصوّراً ما وقع في غزوة أحد ، تلك الغزوة التي هُزم فيها المسلمون هزيمة منكرة ، استشهد فيها كبار المهاجرين والأنصار ، ممن كانت لهم أجلّ المكانة عند رسولنا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى رأسهم سيد الشهداء سيدنا حمزة رضي الله عنه، وساءت فيها الأحوال حتى نال المشركون من رسول الله نفسه ، شجّوه وكسروا رباعيته وأسالوا دمه الشريف ، حتى أشاع الشيطان في الناس أنه قتل ، ومع هذا كلّه يزيلها ربنا بالشاكرين ، ليس هذا فقط بل زيّل الآية التي تليها أيضاً بالشاكرين ، “وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ” [آل عمران: 145].
وكأن الله تعالى يريد أن يقول لنا: ليس كل ما ترونه محناً هو كذلك على الحقيقة ، فقد يكون فيه الخير الكثير ولكن لا تعلمون ، يكفينا فقط أن نتدبّر قوله تعالى: “وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ” [البقرة: 216] ، متى آمنا بهذا القول الكريم وأيقنا بصدق قائله ، حُقّ لنا أن لا نفرح بشيء فرحاً يُلهينا عن شكره ، أو نجزع على شيء جزعاً يشغلنا عن ذكره ، فالكل في الغيب مسطور ، ولن ينجو إلا الصابر الشكور ، “لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ” [الحديد: 23].
هذه المعاني وتلك اللطائف ما يؤكدها هو فعل نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عقب هذه الغزوة وقبل انصرافه من أرضها ، روى الحاكم في مستدركه قَالَ: “لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَعَّدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمُ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكُ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللَّهُمَّ عَائِذٌ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنَا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ إِلَهَ الْحَقِّ آمِين.
فتأمله أخي بالله عليك وراعيه ، وتدبّر ألفاظه ومعانيه، وأنصت بأذن قلبك لقوله فيه ، لتعلم أن المصيبة هي فقط على من حُرم الشكر أو مُنع الصبر ، ولهذا فإن المؤمن الحق البلايا له كالعطايا والمحن له هي عين المنح ، فلا ينظر ما بينهما من تصحيف ، أو يرى ما فيهما من تحريف ، ما دام على شكره قائم وعلى صبره دائم ، مصداق ذلك قول الصادق المصدوق: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ” [رواه مسلم].
ورحم الله الحسن البصري إذ يقول: لا تكرهوا البلايا الواقعة ، والنقمات الحادثة ، فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك ، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره فيه عطبك وهلاكك.
فيا كل مؤمن الزم الشكر يتم لك به الأمر ، وتزيد لك به النعمة ، فكما هو سبب للجزاء، هو أيضاً سبيل للعطاء.
وأختم بقول الشاعر: غُفرانَكَ اللَهُمَّ كَم نِعمَةٍ عَن * شُكرِها عَجزي شَفيعي لَدَيك
هَيهاتَ أُحصي وَرَسولُ الهُدى * يَقولُ لا أحصي ثَناءً عَلَيك.
جعلنا الله وإياكم من الشكّارين الحمّادين ولا حمنا مننه وعطاياه حتى نلقاه وجعلها سبيلنا لجنته وطريقنا لنيل محبته.