عايدة عوض تكتب : حرب النفوذ على الشرق الاوسط

عندما بدأت الهجمة الغربية الممنهجة على الشرق الاوسط في أوائل هذا القرن لم تكن استعدادات دول الشرق قد اكتملت لتتمكن من التدخل فيها وإنقاذ هذه الدول من المخطط الذي كان قد مورس على روسيا عندما فتت الاتحاد السوفيتي. فضاعت أفغانستان والعراق والصومال والسودان واليمن وليبيا.

وعندما جاء دور سوريا كانت بدأت روسيا تتعافى وتحاول أخذ مكانها الطبيعي بين دول العالم. وعندما طلبت سوريا معونة روسيا في مساعدتها على مقاومة الهجمة الممنهجه والتي سميت من جانب القائمين بها انها حرب أهلية، وافقت روسيا بشرط ان يكون لها قاعدة بحرية على البحر المتوسط ووافقت سوريا على ميناء طرطوس.

وبدأت روسيا تعمل جدياً في البدئ في بسط نفوذها في الاقليم بعد ان وجدت لنفسها موطئ قدم. فبدأت بتوطيد علاقاتها بدول المنطقه وكانت اسهل دوله لذلك هي ايران لانه لم يكن لها اي علاقات وطيده او متقاربة مع امريكا والغرب. ولكن بعد ٣ سنوات وبعد توقيع الاتفاق النووي الايراني كانت علاقات ايران بروسيا قد تحسنت كثيراً.

وفي نفس التوقيت بدأت روسيا تحسن علاقاتها بتركيا وتغريها بخطوط غاز وبترول تمر عبر أراضيها الى اوروبا، وببيع أسلحة متقدمة لها، في الوقت الذي رفضت فيه امريكا بيع ف-٣٥ لها. وتَدَخُّل تركيا في سوريا أوجد الفرصة لتوطيد العلاقات بين البلدين في النقاشات المطلوبه لتسيير الاعمال في هذا البلد. وكانت علاقات تركيا قد بدأت تتدهور من جراء الانقلاب الفاشل على اردوغان ويقينه ان امريكا كانت لها ضلع فيه.

مع مجئ ترامب للحكم في امريكا بدأ الإسراع في تدهور العلاقات الخارجيه للدول عموماً مع امريكا. فالعجرفة والصفاقة التي يتعامل بها ترامب مع باقي رؤساء العالم جعلته شخصية منفرة، ولكن لقوة دولته الاقتصادية والعسكرية كان الجميع مضطر لقبول هذه العجرفة والصفاقة.

وبدأ سياسته الانعزالية لامريكا. عندما استلم الرئاسة كان الاقتصاد في حالة تدهور، لكنه حاول جاهداً تخطي ذلك ووجد ان من اعلى الإنفاقات للميزانية الامريكية بعد وزارة الدفاع كانت تلك المتصلة بالمهاجرين الغير شرعيين. ولذا إعتمد في حملته الانتخابية على وعد الشعب الامريكي بحل هذه المشكلة التي ترهق الاقتصاد المحلي.

‏وعندما بدأ حملته لبناء الحائط الحدودي كانت قد بدأت مشاكلها الداخلية من ‏الديموقراطيين ولكنه أكمل في سياسته الانعزالية بالخروج من عدة اتفاقيات دولية ، وكان خروجه من اتفاقية إيران النووية‏ بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير في علاقاته الدولية وأثرت سلباً في مكانة امريكا دولياً.

من هنا بدأت روسيا الدخول الى الساحة العالمية من ناحيتين ، الأولى تواجدها في سوريا والثانية تعود الى انها عضو من ضمن الاتفاقية مع إيران. ‏تواجدها في سوريا أزعج الغرب بالكامل لأنها بدأت تكشف ‏نواياه وخططته ‏في محاولات افشل دولة سوريا.

‏ولذلك نجد التحرش بروسيا أولا عن طريق بريطانيا في موضوع تسميم سكريبال الجاسوس المزدوج الروسي وإتهامها بمحاولات ‏اغتياله عن طريق ‏الغاز المحرم دوليا. ‏ولكن بما أن روسيا كانت قد استعدت لمواجهة الإعلام الغربي بتأسيس محطة “روسيا اليوم” وتوجيه اخبارها لهم في الغرب فتمكنت من محاربة هذه المحاولات و كشف حقيقة الموضوع وأنه راية خادعة.

‏وحتى محاولات الغرب تلفيق التهم لبشار الاسد بالقيام بضرب شعبه بالكيماويات المحرمة كشفتها قناة روسيا اليوم على حقيقتها للعالم أجمع و أنها عمليات راية خادعة قام بها التحالف الغربي. ‏وكلما زاد كشف هذه الأعمال الغربية عن طريق روسيا كلما زادت مكانة روسيا في المجتمع الدولي و ‏نقصت مكانة الغرب بكشف زيف‏ أقاويله. ‏كل هذا أعلى من الشأن الروسي بين دول الإقليم وبدأت تحاول روسيا الدخول في شراكة مع هذه الدول وخصوصا دول الخليج مثل السعودية والإمارات والكويت والبحرين.

‏وفي نفس الوقت تطورات العلاقات الروسية بكل من إيران وتركيا لتواجدهما في داخل سوريا ومع الاعتداءات المتكررة من جهة إسرائيل عليهم. ‏وكلما تحسنت علاقات روسيا بهذه الدول كلما زاد حنق امريكا وزادت في تعاملاتها التي اتسمت‏ بالكثير من الغضب والعنف والتعالي‏ والصلف. ‏فبدأت دول الشرق الاوسط تحسين علاقتها بروسيا ولكن دون مجاهرة خوفا من ردة فعل امريكا فنجد انه مثلا السعودية تمكنت من خلق علاقة ودية مع روسيا عن طريق البترول وفوجئ العالم بأن روسيا كأحدى اكبر الدول المنتجة له‏ قد انضمت لمنظمة أوبيك لتصبح أوبيك ‫+1‬.

وفي نفس الوقت، وبالرغم من ان اسرائيل قد قامت بإيقاع طائرة حربية روسيه وعلى متنها ١٥ من الخبراء، الا ان روسيا، بعد ان انتقمت لهذا الفعل بهجمة سيبرانية على اسرائيل خسرت من ورائها الكثير، وخصوصاً سمعتها انها الأقوى دولياً في هذا المجال، عادت روسيا وسمحت لاسرائيل بتحسين علاقاتها معها. وبذلك تتسم علاقات روسيا بالتوازن مع كل دول الاقليم، حتى الحليفة لامريكا.

‏وفي نفس الوقت دخلت الصين على نفس الخط وليس فقط بالنسبة للشرق الاوسط ولكن أيضا لأفريقيا وبدأت العلاقات التجارية و المشاركة مع اغلب هذه الدول وخصوصا التي دخلت ضمن مشروعها الدولي طريق واحد/‏حزام واحد. ‏فنجد أن كل من روسيا والصين دخلت إلى هذه المنطقة بالطريقة التي هي قوية فيها ، فروسيا دخلت على أساس الحماية العسكرية والصين دخلت على أساس المشاركة في المشاريع التجارية المتبادلة.

‏وبهذه الطريقة بدأت بلاد الإقليم والمنطقة تدخل في مصالح مشتركة مع هذه الدول الشرقية وبالتالي بدأت علاقاتها مع امريكا ودول الغرب تفتر‏ بالمقارنة وذلك للفرق في أسلوب التعامل.

‏عبر السنين الماضية وعن طريق سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي تمكنت روسيا من الحصول على مركز قوي في الدبلوماسية العالمية و أصبحت إحدى أهم الدول عند المشاركة في محاولة إيجاد حلول للمشكلات الدولية. ‏وفي نفس الوقت فقدت امريكا الكثير من حلفائها وأصدقائها بطريقة تعاملها معهم من منطلق التعالي والصلف والبلطجة التي تعودت عليها منذ أن أصبحت القوة العالمية الوحيدة.

‏وتجلي لنا هذا الخلل في الموازين بالنسبة لشعبية امريكا دوليا بالمقارنة بيشعبية روسية عندما اخذ ترامب بخطوة الاعتراف بالقدس كعاصمه لإسرائيل وتمكنت مصر مع باقي الدول العربية من نقل التصويت على هذا القرار من مجلس الأمن الى الجمعية العامة وظهرت نتيجة التصويت بالأغلبية العظمى‏ضد قرار امريكا بالرغم من تهديداتها بفرض العقوبات على كل من يصوت ضدها.

وبدأت أنظار العالم تتحول إلى الشرق تنظر لكل من روسيا والصين إلى حد كبير على أنهما كتلة واحدة تكمل كل واحدة منهما الأخرى وكل واحدة لها ثقل كبير أمام الثقل الأمريكي في الغرب، والتي قد أصبحت وحيدة بعد ان إنفض حلفائها الأوروبيين من حولها ‏للسوء معاملاتها لهم. وكلما زاد اضطهاد امريكا لاي واحدة من هذه الدول كان رد الفعل الطبيعي تقاربهما اكثر.

فالحرب التجارية مع الصين والعقوبات الاقتصادية على روسيا حولت التعاون الاقتصادي من امريكا الى بعضهما البعض. ‏وظهر ذلك عندما حاول ماكرون اعادة روسيا إلى حظيرة أوروبا ولكن كانت روسيا حذره ولا تعطيه رداً شافيا وذلك لأنها كانت في نفس الوقت تقوم بوضع اللمسات الاخيرة للاتفاق المتكامل مع الصين في مشاركة في جميع النواحي بما فيها التعاون العسكري.

وجأت أزمة الخليج مع ايران كمثال اخر لمدي فقدان امريكا لسيطرتها العالميه لانها عندما حاولت تشكيل حلف “عالمي” لتأمين الملاحة في الخليج لم تجد اي دولة مستعدة للدخول معها في ذلك. وكانت هذه ثاني صفعة عالمية تتلقاها امريكا واعتقد انها بدأت تدرك مدى تدهور مكانتها العالميه فزادت وتيرة فرض العقوبات الاقتصادية والتهديدات. وكلما زادت في ذلك كلما وضح الفرق بينها وبين أسلوب الكتلة الشرقية في الترغيب في المشاركة والاستثمار والمصالح المشتركة والدفاع المشترك.

بدأت روسيا في محاولة تقارب دول الخليج بسعيها لإقامة اتفاق دفاع مشترك عن الملاحة في الخليج. واكبر عائق هي السعوديه، فكانت الزيارة الخاطفة لبوتين لكل من السعودية والإمارات حيث وقع عدة اتفاقيات استثمارية في مجالات مختلفه. ولكن قبل القيام بهذه الزيارة اشترك في حوار تليفزيوني عربي اوضح فيه موقف روسيا من كل دول المنطقه انه حيادي لا يقف مع احد ضد احد وهذه رساله قوية ولطمه موجهة لامريكا المنحازة انحياز تام لاسرائيل.

ويبدو ان رسالة بوتن قد وصلت لانه استقبل بحفاوة منقطعة النظير من البلاد العربية ، في الوقت الذي قام فيه ترامب في خطبة له بالسخرية من احد الملوك العرب وكيف انه عامله بتعالي وصلف. فليس من المستغرب ان تشعر شعوب وحكومات هذه البلاد بالغضب نحو امريكا وتجد في روسيا والصين المصلحة المشتركة ولكن الاهم من ذلك الاحترام المتبادل.

كانت الديبلوماسيه الروسية قد أظهرت براعتها في اللجؤ للأطراف الفاعله وعندما زار وفد كردي مصر سعت مصر في إقناعهم بالتصالح مع الرئيس السوري واستخدمت روسيا هذا الموقف بالضغط هى الاخرى على الأكراد وعلى الأسد وكانت النتيجة تعاون جيش سوريا العربي مع الأكراد في رد العدوان التركي. والديبلوماسية الروسية ايضاً هي التي تحاول الحيلولة دون دخول الجيش السوري في مواجهة مسلحة مع الجيش التركي بوضع جنود من الشرطة العسكرية الروسيه كحائط صد بين الجيشين ، وذلك لتسهيل التسوية السياسية فيما بعد. ونصف اعتراضات تركيا على تواجد الأكراد على الحدود معها قد تلاشي بالتفاهم الكردي السوري والنصف الثاني سوف يزول بتطبيق الدستور السوري الجديد. وهذا ما تحاول روسيا الوصول اليه حتى تتمكن من تسوية الامر بين تركيا وسوريا ديبلوماسياً.

اما امريكا فقد ادركت ان تركيا الان قد خرجت من تحت سيطرتها وفجأة ادركت ان امريكا لديها ٥٠ صاروخاً نووياً في قاعدتها التي في تركيا. فنجد تحرك سريع بأرسال نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو الى تركيا بحجة محاولة تسوية المشكلة السوريه. وفي اول الامر رفض اردوغان مقابلتهما، ولكنه عدل عن ذلك ووافق على المقابله.

تتعامل روسيا في الاقليم كالدولة العظمى والتي بيدها الحل وتبعث برسائل تطمين لكل دول المنطقة بما فيهم اسرائيل. وهذا هو الدور الحقيقي لأي قوى عظمى وليس ما تقوم به امريكا الان. فنجد ان في زيارة بوتن الاخيرة للسعودية والإمارات كان هناك ترحاب كبير وعالي المستوى بالرغم من العزف للنشيد الوطني الروسي الذي اقل ما يقال عنه انه كان ردئ والذي اسفر عنه انتقادات كبيره في السوشال ميديا الروسية. ولكن الكرملين رد بعتاب على هؤلاء وبان الاستقبال كان في منتهى الحفاوة.

فهل وعت امريكا الى انها بصدد فقدان سيطرتها على الشرق الاوسط ام مازالت ترى انها هى الوحيدة التى لها ثقل في اي بقعة من بقاع العالم؟. إدراكها لتغير وضعها الدولي قد يصيبها بحالة رفض قد تتطور الى العنف.

وأخيراً لابد من كلمة حق.ان يكون هناك دوله واحده هي الدولة العظمى في العالم ذلك يسبب مخاطر كبيره كما شاهدنا عبر تقريباً قرن مضي. وحتى لو كان أسلوب القوة الصاعدة مختلف الان، الا ان السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. ولذا، وبالرغم من كل ما فعلته امريكا وخصوصاً بالشرق الاوسط وبنا نحن كمصريين، فلابد من التعقل وإدراك انه لابد من وجود توازن بين قوتين متقاربتين، يكون بينهما دائماً تنافس وطموحات متضاربة ولكن لابد من التعايش مع بعضهم البعض وان وجود كل قوة منهم هو الرادع للقوة الاخري وهو ما يحافظ على موازين القوة العالميه وبالتالي يحافظ على السلام.

بالتعقل بعض الشئ لابد ان نرى انه مهم ان تظل امريكا لها وضع قوي في العالم ولكن لابد وان يكون في مقابلها وضع قوي اخر في نفس المستوي من روسيا او الصين او الاثنين معاً. بتساوي القوى سيسود نوع من التوازن الذي يضمن الى حد ما السلام العالمي.

منذ قرابة الخمس عقود والصهيونية العالمية تنمي نفوذها في دول الشرق كما فعلت في دول الغرب من قبل. ولذا سنجد ان هذه الدول الصاعدة ليست في عزلة عن هذا النفوذ المدمر. هل ستقيها حضاراتها العتيقة من هذا النفوذ ام ان الضعف الإنساني واحد؟.

امريكا الان بدأت تعي الدرس وتعرف من هم الذين أوصلوها الى ما هي عليه الان، وبدأ التيار ينعكس ضد الصهيونية المتسلطة عليها، ولكن اعتقد انه جاء متأخراً بعض الشئ لإنقاذ امريكا من الانكسار. وأتمني، لسلامة العالم كله، ان لا تنهار امريكا انهياراً كاملاً يترك فراغ عالمي مرة اخرى حيث يملأه قطب أوحد ونعيد الكرّة مرة اخرى ولكن بلاعبين جدد.

لو جاء انهيار امريكا كإنهيار جزئي سيكون هذا احسن سيناريو للعالم اجمع، لانها ستصبح واحدة من عدة اقطاب وكل هذا يصب في صالح التوازن في القوى العالمية الذي يؤدي الى السلام. وستكون وعت الدرس من النفوذ المدمر للصهيونية العالمية وقد تساعد في تحجيمها بشرط ان لا تسيطر بالكامل على اي من الدول الاخري. ولكن الصراع بين الخير والشر هو صراع أزلي وسيستمر حتى يوم القيامة.

حفظ الله العالم من الاشرار

زر الذهاب إلى الأعلى