محمود البيطار: تَأسيس أوَّلِ مركزٍ اسْتِشرافي إفْتائي سيكون سبقًا للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء
كتبت: فوقيه ياسين
قال د/ محمود حسن البيطار، كبير باحثين بالأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم: لَقد قامَتْ شَريعةُ الإسلامِ على تحقيقِ الوسطية والاعتدال؛ وكان مِن ثِمارِ ذَلِكَ أنْ عَمِل الشَّرعُ الحَنيفُ على حِفْظِ التَّوازُنِ بينَ مادَّةِ الجسَدِ ومَطْلوباتِه، وبينَ سُموِّ الرُّوحِ وصَفائِها؛ لِيَحفظَ علَى الإنسانِ فِطْرتَهُ الصَّافِيةَ النَّقيَّةَ، الَّتي فَطَر اللهُ الناسَ علَيْها ..
جاء ذلك خلال كلمة لفضيلته بعنوان “موقف المؤسسات الإفتائية من الاستشراف الإفتائي لتطورات الواقع المعاصر مع تصور مقترح” بالجلسة العلمية الثالثة ضمن فعاليات مؤتمر “الفتوى وتحديات الألفية الثالثة” مضيفًا أنَّ عَالَمَنا اليومَ يُهَرْوِلُ في سِبَاقِه الْمَادِّيِّ إلى تَقدُّمٍ تِقْنِيٍّ غَيْرِ مَلْحُوقٍ، فأَحْدثَ على إثْرِ ذَلِكَ أثَرًا غيرَ مسبوقٍ؛ وصارَ مِنْ صُنْعِ إنْسانِ هَذهِ الحَضارَةِ آلَةٌ تَتعَلَّمُ فتَنظُرُ وتَقْرأُ، وآلَةٌ تَكتُبُ وتُؤلِّفُ، وحَلَّتِ الْآلةُ مَحَلَّ العَامِلِ، بَلْ مَحَلَّ الطَّبِيبِ، بَلِ اسْتَطاعَتْ هذه الآلَةُ أنْ تَنْقُلَكَ أيُّهَا الإنْسانُ عَبْرَ فَضائِهَا الْإلِكْتُرُونيِّ إلى أُنَاسٍ تَفْصِلُكَ عَنهُمُ المُحيطاتُ والقَارَّاتُ مِن خِلالِ واقِعِها الِافْتِراضيِّ؛ فتَشْعُرَ بهِمْ، ويَشعُروا بِكَ .. وظَنَّ إنْسانُ اليَوْمِ أنَّ هذه سِيمْفُونيَّةٌ تَعزِفُها على مَسامِعِه العُقُودُ الأُولَى مِنَ الألفيَّةِ الثالثةِ، الَّتي كُنَّا نعتقدُ بَلْ نَنتظِرُ أن تَحْمِلَ مِنْ تَحَضُّرِ الإنسانيَّةِ، وصَحْوِ ضَميرِها، بمِقْدارِ ما حَمَلَتْهُ مِنْ تَقدُّمٍ مُذهِلٍ، وقَفَزاتٍ مُدهِشةٍ في مَجالاِت التقدُّمِ العِلْميِّ والصِّناعيِّ والحَضاريِّ المادِّيِّ.
وشدد على أنه عِند قِراءةِ واقِعِنَا قِراءَةً أَمِينةً سرْعَانَ مَا يَتَلَاشَى هذا الظَّنُّ؛ لِنَعْرِفَ أنَّه حُلْمٌ مِن أحْلامِ اليَقَظةِ، أفَاقَنَا مِنهُ كابوسُ الوَاقِعِ؛ لِنُوقِنَ أنَّ هذا التَّقدُّمَ لَمْ يُوَاكِبْهُ – معَ الأسَفِ – تَقدُّمٌ مُوَازٍ في مَجالاتِ الْمَسْؤُوليَّةِ الأَخْلاقيَّةِ والإِصْغاءِ لنِدَاءِ الضَّميرِ؛ فلَمْ يَكْتَرِثْ إنسانُ هذهِ الحَضارَةِ المادِّيَّةِ بالفِطْرَةِ الإلَهِيَّةِ الَّتي فطَرَ اللهُ النَّاسَ علَيْها … وَتَبَيَّنَ لِذَوِي العُقولِ أنَّ العَلَاقةَ بينَ التَّقدُّمِ التِّقْنيِّ والحضَارِيِّ المادِّيِّ وبينَ الِانْفِلَاتِ الأَخْلاقيِّ -مَعَ الأسَفِ- عَلاقَةُ تَلازُمٍ وَاطِّرَادٍ؛ وذَلكَ في ظِلِّ فَلْسَفاتٍ تُقدِّسُ المادَّةَ، وتَندفِعُ نحوَ التَّعَبُّدِ لِأَصنامِ الأَثَرَةِ وحُبِّ الذَّاتِ.
وأوضح أنَّ هذا التَّقدُّمَ في عُقودِه القادِمَةِ غَيرِ البَعيدةِ – وبِغَيرِ إنذارٍ – سيُفْرِزُ لنا سَيْلًا جَرَّارًا مِن التَّسَاؤُلاتِ الشَّرْعيَّةِ، والقَضايا الإفتائيَّةِ غيرِ المَسْبوقةِ.
وأشار إلى أنه في ظِلِّ هذا الصِّراعِ يأتي دَورُ المؤسَّساتِ الإفتائيَّةِ لِتُذكِّرَ بتَعاليمِ الدِّينِ الحَنِيفِ، ولِتَصْنعَ مِنها سِيَاجًا واقِيًا لحِفْظِ مَنظُومَةِ القِيَمِ، ولِتَبْعَثَ في النَّفسِ صَوْتَ ضَمِيرِهَا الْمَكْلُومِ الْمُكَبَّلِ؛ تِلْكَ التَّعالِيمُ الَّتي تُجَسِّدُهَا أحْكامُ الشَّرِيعةِ الغَرَّاءِ …
وتابع: وتأسيسًا على كلِّ ما سبَقَ، وفي ظِلِّ هذا الطُّوفانِ الهَائلِ مِن التقدُّمِ وما يَحمِلُهُ للبشَريَّةِ مِنْ آثَارٍ؛ يَأْتي دَورُ المؤسَّساتِ الإفتائيَّةِ مِن خِلالِ مُحاوَلةِ اسْتِشْرافِ القَضايا الإفتائيَّةِ الْمُتَولِّدةِ مِنْ رَحِمِ هذا التَّقَدُّم .. مِن هُنا كانت فِكْرةُ هذا الطَّرْحِ البَحْثيِّ الَّذِي وَسَمْتُهُ بِعُنْوَانِ: “مَوْقِفُ الْمُؤسَّسَاتِ الإِفْتائيَّةِ مِنَ الِاسْتِشْرافِ الإفْتائيِّ لِتَطوُّراتِ الواقِعِ الْمُعاصِرِ معَ تَصَوُّرٍ مُقْتَرَحٍ”.
وعن تفاصيل هذا الطرح أضاف فضيلته: وأنَا ما وقَفْتُ هذا الْمَقامَ في هَذا الْمُؤتمَرِ الدَّوْليِّ الحَاشِدِ الْمَهِيبِ، الَّذي تَعقِدُه الأمانةُ العامَّةُ لِدُورِ وهَيْئَاتِ الإفتاءِ في العَالَمِ؛ لِأَزْعُمَ السَّبْقَ إلى ضَرُورَةِ قَضِيَّةِ الِاسْتِشْرافِ الإفتائيِّ؛ بَلْ إنَّنا على دَرْبِ الأَكابِرِ لا بُدَّ أَنْ نَسيرَ؛ فَقدْ ذكَرَ الخَطِيبُ البَغْداديُّ في تاريخِه: أنَّ أبَا حَنِيفَةَ الإِمامَ دَخَل علَى قَتَادَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنهُما- فقال: يا أبَا الخَطَّابِ، مَا تَقُولُ في رَجُلٍ غابَ عن أهلِه أعوامًا، فظَنَّتِ امْرَأتُهُ أنَّ زَوْجَها ماتَ، فتزَوَّجَتْ، ثُمَّ رجَعَ زوجُها الأوَّلُ، ما تَقولُ في صَدَاقِها؟ … فَقال قَتَادَةُ: وَيْحَكَ، أَوَقَعَتْ هذهِ المَسألةُ؟ قالَ: لَا، قَال: فَلِمَ تَسألُنِي عمَّا لم يقَعْ؟ فقالَ الإمامُ أَبُو حنيفةَ – مُؤسِّسًا لِمَبْدَأِ الِافْتِراضِ الفِقْهيِّ، والاستِشْرافِ الإفتائيِّ -: “إنَّا نَسْتَعِدُّ لِلبَلاءِ قَبْلَ نُزولِهِ، فَإِذا ما وَقَعَ عرَفْنَا الدُّخُولَ فِيهِ والخُروجَ مِنهُ”.
وأشار كبير الباحثين إلى أن هناك فَرْق شاسِع، وبَوْن واسِع بَينَ زمَنِ الإمامِ وزَمانِنَا؛ فلَقدْ كانَ زمَانُه مُتَّسِمًا بالتيسيرِ وعدَمِ التَّكَلُّفِ لمْ تَمْلَأْهُ التَّعقيداتُ، ولَم يَغْزُهُ طوفانٌ مِن التقدُّمِ التِّقْنيِّ في كُلِّ الْمَجالاتِ؛ ومِنْ ثَمَّ كانَتِ الحَاجَةُ إلى عِلْمِ الِاسْتِشرافِ الإفتائيِّ في زَمَنِنَا هذا الَّذي تَحْدُوهُ الْألفِيَّةُ الثَّالثةُ مَاسَّةً، والضَّرُورَةُ مُلِحَّةً، والْأَهَمِّيَّةُ قُصْوَى.
وأضاف: ولَعلَّ سُؤالًا يَلُوحُ في أفُقِ فِكْرِ بَعضِ المستمِعِينَ الكرام؛ ما هذا الاستشرافُ الإفتائيُّ الذي تَزْعُمُ، ومَا المرادُ بهِ؛ فأَقولُ: لم أقِفْ على مَن عَرَّفَ المفهومَ على النحوِ الْمَقْصودِ؛ فاجْتَهَدْتُ في تَعْريفِه فقُلتُ: “مَهَارةٌ فِقهيَّةٌ للمُفتي، تَهْدُفُ إلى اسْتِقْراءِ شَواهدِ الواقعِ المَعِيشِ ومُعْطَياتِه؛ لِلوُقوفِ على ما قَد يتَولَّدُ عنها مِن قَضايا إفتائيَّةٍ، لم يَسبِقِ التطرُّقُ إليها، في مُحَاولةٍ لإيجادِ فَتاوَى اسْتِباقيَّةٍ لها قبْلَ الوُقوعِ”، وهذا هو التَّعْريفُ المطروحُ في الورَقةِ البحثيَّةِ.
واختتم فضيلته بالتأكيد على أهمية هذا الطرح قائلًا: إن ما ذكرته قد يَصِيرُ ضَربًا من التَّرَفِ الفِكريِّ العقيم، أو لونًا من الفكرِ النظريِّ المجرَّد، الذي لا يَخدُمُ الواقِعَ في شَيءٍ ما لم يُتوَّجْ بخُطوةٍ عمَليَّةٍ استباقية؛ من هنا كان سعْيُ الأمانةِ العامَّةِ لِدُورِ وهيئاتِ الإفتاءِ في العالَمِ إلى تَحقيقِ الدَّورِ الْمَنوطِ بها .. مِن خِلال: تَأسيسِ أوَّلِ مركزٍ اسْتِشرافيٍّ إفْتائيٍّ يُعْنَى بالقَضايا الإفتائيَّةِ الَّتي لا تَزالُ في أفُقِ المستقْبَلِ القَريبِ، أو يُعْنَى بفِقْه ما بعدَ النَّوازلِ والمُستَجِدَّاتِ، ولا ريبَ أنَّ افْتِراضاتِ الأمْسِ هي وَقائعُ اليَومِ، وافْتِراضاتِ اليَومِ هي وَقائعُ الغَدِ … وهُو التَّصوُّرُ المقْترَحُ المذْكُورُ في بَحثِ هذه الكَلِمةِ الَّذي بَيْنَ يدَيْ حَضَراتِكُم، سائلًا الله عز وجل أنْ يَكُونَ مَركَزُ الاسْتِشْرافِ الإفْتائيِّ خُطْوةً عِلْمِيَّةً وعَمَلِيَّةً جَادَّةً على طريقِ السَّعيِ نحوَ فَتْوَى مُوَاجِهَةٍ لِلتَّحَدِّيَاتِ، ومُوَاكِبَةٍ لِلمُسْتَجِدَّات.