إشكالية الصراع العاطفي بين أبناء الجنس البشري في رواية اجتماعية لها بعض الأبعاد التاريخية والصوفية ، أصابتنا بكثير من المتعة المبتغاة والإفادة المرتقبة ، والتى تدور حول مشاعر الحب والعشق، الحب بكافة أنواعه وحالاته، الحب الصوفي منه، الذي يرتقي ويسمو بالنفس نحو معية الذات الالهية، والحب العذري الوجداني، الذي ينساب رقراقا من المشاعر الانسانية، والحب الأسري الذي يمنح الطمأنينة والتلاحم بين أفراد الأسرة، وغير ذلك من أنواع الحب التي تتلاحم وتتلاصق بل وقد تتشاحن بسببه الأجناس البشرية في الحياة، كل تلك العناصر وغيرها التي لم تزل وستظل باقية بقاء النفس البشرية على ظهر البسيطة، وتتطور وتختلف ايجابا وسلبا صعودا وهبوطا شرقا وغربا عبر التاريخ البشري من مكان إلى آخر، لكنها باقية بقاء النوع، كل ذلك تجده في رواية قائم وحصيد.
ففي رواية قائم وحصيد للأديبة د. إنجي البسيوني، التي بدأتها بإهداء نبيل الغايات سامي الأهداف، موجه لكل مبدع يشعُر بالتجاهل، بأن عليه ألا يعبأ بذلك ولا يحزن، أن عليه أن يوجِّه أبداعه إلى الانسانية، تلك التي ستبقى بعد فناء الجميع، عبر كل العصور.
ثم تبدأ الكاتبة روايتها بالغزل العفيف في معشوقتها عبر كل الأزمان مصر، فتلقي الضوء على مصر الجميلة في كل العصور، ثم تدخل إلى الأحداث التي تدور على الساحة في عصر حكم المماليك، وبعض الأزمات التي واجهت البلاد في عصر السلطان قايتباي، سواء من قبل الجلبان الذين أنيط بهم حفظ الأمن فكانوا مصدرا للإزعاج، ما دعا السلطان لمحاربتهم وأسر أميرهم، ثم نفيه خارج البلاد، ليواجه أزمة أخرى بتفشي وباء الطاعون في البلاد، وما نتج عنه من وفاة كثير من الأنفس.
وفي خضم تلك الأحداث التي تلم بالبلاد، تتحقق إشكالية الحب بكافة أنواعه، وتعالج الكاتبة تلك الإشكالية ببراعة في السرد، وجمال في الحوارات، فى دورة الأحداث في كثير من جوانب الرواية، منذ بدايتها حتى آخر سطر فيها حول مشاعر الحب العذري، والعشق الإلهي، بين أبطال الرواية ، بل إنني أكاد أجزم أن الرواية من بدايتها حتى نهايتها قد أّسِّست أركانُها ورسخت على قواعد الحب والعشق والوله بأنواعها المختلفة، عبر لغة فصيحة رصينة، أعطت للسرد الشائق جلاله ومنحت الحوار الجاذب متعته، طافت بنا فيها الكاتبة في بساتين الحياة، فاقتطفت لنا منها أطيب الثمر، وكذا غاصت بنا في أعماق الواقع فأخرجت لنا منه دررًا ، وجعلتنا نلتف في شغف حول مائدتها الدسمة التي جمعت فيها ما لذَّ وطاب من أشهى الطعام وأطيب الشراب. فها نحن أمام جانب من جوانب العشق الإلهي الذي يسعى إليه السالك الزاهد نحو السمو بروحه عُلوا نحو عتبات المعية مع الذات الإلهية، وتلك الحالة تتحقق مع بطل الرواية الجندي” شاهين المحمدى” التبريزي المولد، الذي جُلب من بلاد فارس ألى مصر في عصر المماليك تحديدا في عهد حكم السلطان قايتباي، هذا الجندي الذي لم يكن يشغله عن العبادة ومعية الذات الالهية شيء، فكان يتم تدريباته مع الجنود نهارا، ويظل يتعبد ليلا حتى عُرف بورعه ، لذاضمَّه السلطان قايتباى إلى مجلسه وأصبح من ندمائه وخاصته،
حتى عندما تزوج هذا الزاهد السالك كان بدافع فعل الخير والمعروف للرجل الذي كان كوالد له، وترك له وصية بالزواج من ابنته “مسك” تلك الفتاة الجميلة، أو تزويجها لمن يرى صلاحه، والتي بدورها رفضت مسك غيره، فقد كان قلبها معلقا به، في حالة أخرى من حالات الحب العذري النقي، فلم يكن أمامه الا ان يتزوجها ليحقق وصية الرجل الطيب، الذي استأمنه على ابنته بعد وفاته، إلا أنه اشترط عليها ألا تشغله عن العبادة فوافقت برحابة صدر، ما يدل على حسن تربيتها ونقاء سريرتها، خاصة برفضها خليل نورالدين ذلك الشاب الثري ابن تاجر الحرير لكنه كان أهوج الطباع رغم أنه كان يحبها بجنون. ثم الاشارة إلى ذلك اللقاء القدرى بينه وبين العالم والفقيه جلال الدين السيوطى والذى غير مجرى حياته فيما بعد، حتى دبر له خليل هذا الأهوج مكيدة مع “وصال” تلك المرأة اللعوب، كي يفضحه في الحي، ولكن وصالا هي الأخرى قد شُغِفت به عشقًا ووقعت هي الأخرى في حبه، في حالة أخرى من حالات حب الجسد الفاني، لكنه نَجى من تلك المكيدة بمعيتة الدائمة إلى الله، والتي حاولت خليل أن يوقعانه فيها، وكان الفضح والجرس لخليل الذي أراد به كيدًا فكان من الخاسرين ، ثم التحق بشيخه الدمرداشى واعتكف معه فى خلوته ينهل ويتعلم وظل على ذلك الحال حتى مات شيخه الدمرداش، فتأثر شاهين بذلك كثيرًا وسمى نفسه شاهين الدمرداشي وفاءً لشيخه، وبعد ذلك آثر العودة إلى بلدته تبريز في بلاد فارس، في رحلة شاقة لاقى فيها كثيرًا من الأهوال والصعاب، ولما وصل وجد معلمه الأول وشيخه صفي الدين التبريزي قد توفاه الله، فركن إلى ما كان عليه من العبادة حتى ذاع صيته، وكان يأتي إليه المريدون فآثر العزلة، ثم عاد مرة ثانية ألى مصر.
وهناك اتخذ مكانا بجبل المقطم معبدًا له، وعُرف بتقواه وورعه واشتهر بإسم شاهين الخلوتي، وكان يقصده الأمراء والوزراء للتبارك به، حتى إن السلطان قايتباي كان يذهب لزيارته بين الحين والآخر، في حالة آخرى من حالات حب الرفاق أو الصداقة، وظل شاهين على ذلك الحال في رحلة الزهد والمعية الإلهية ثلاثين عاما، لم يبرح فيها معبده حتى انتقل الى جوار ربه وبنى له ابنه جمال الدين مقاما ومسجد في المكان ذاته يقصده الناس للعبادة والتبرك بالمقام لسنين طوال، حتى أصبح المكان مجرد آثارا وأطلالا لم يبق منه الآن غير شاهد من للمقام وأثر من المسجد .
وفي رشاقة ” المايسترو” تتنقل بنا الكاتبة عبر خاصية القفز على الأحداث لتعبر بنا أزمنة عديدة نحو المستقبل، حتى تتوقف بنا في الزمن المعاصر، وتبدأ الكاتبة سردًا في خط آخر موازٍ، وعلى جانب آخر من الحديث في زمن آخر معاصر، تتناول الكاتبة فيه حالات أخرى من الحب الوجداني العذري، في عدد من العلاقات العاطفية المختلفة، بعضها ينم عن مشاعر الحب الفطري النقي الذي لا يتغير أبدًا ولا يشوبه شائبة، كحب الأم لابنتها “شاهندة”، وما أصاب الأم من انزعاج لما أقدمت عليه الابنة من محاولة لإنهاء حياتها، بسبب ما أصاب الابنة من روع بسبب فقد عريسها في ليلة زفافها نتيجة حادث ألم به، ثم تلك العلاقة النفسية العاطفية، التي جعلت الابنة كلما أصابها مكروه تلجأ الى هذا المكان الذي لم يعد يوجد به غير أطلال وأثر متهالك، لمقام ومسجد على جبل المقطم، وتنتهي العلاقات الإنسانية الوجدانية في تلك الرواية بهذه العلاقة العاطفية القدرية، التي جمعت بين شخصين مختلفين في الأماكن من حيث المولد ومن حيث الإقامة، لا يجمع بينهما جامع منطقي، سوى هذا الرباط الذي تمتد جذوره في عمق التاريخ، والتي تبدأ من جدَّي بطلي قصة الحب، تلك العلاقة القدرية التي جمعت بين شاهندة علي جمال الدين، تلك الفتاة المصرية العصرية التي تعمل مرشدة سياحية، وبين المهندس رستم ركن الدين، ذاك الشاب الإيراني المولد الذي يقيم في كندا ، والتي نشأت أثناء وجوده بمصر عندما جاء لزيارة قبر أمه المصرية التي توفيت وطلبت دفنها بمصر، هذه العلاقة التي جمعت بين الحديث و القديم وجمعت بين الأماكن المتفرقة وببن الثقافات المختلفة، والتي كانت نتاج للعلاقات الروحية بين أصول طرفيها، السالك الصوفي شاهين الخلوي ومعلمه الإمام الزاهد صفي الدين التبريزى.
وفي غفلة من الزمن، وعبر سرد ماتع برواية اتخذت فيها الكاتبة أسلوب الراوي العليم الذي يعلم الأحداث منذ بدايتها حتى النهاية، وبما لهذا الأسلوب من أثر في زيادة المتعة لدى المتلقي، وكما يفعل القمر حين يلملم نجومه، ويغوص معهم في أعماق البحار، لينهي ليلًا صيفيًا قصيرًا، تفعل الكاتبة ذلك، فتمسك ببراعة بخيوط لعبتها، وتنهي الأحداث في غفلة منا، أو في انشغالنا بجمال السرد الحائر بين زمنين متباعدين، فتسدل الكاتبة الستار، وتضع لأحداث وأشخاص روايتها نهاية مفتوحة، فتضع أسس التقاء خطي سرد الرواية المتوازيين، بموضوعيها القديم منه والحديث، ليلتقيا في نقطة واحدة، بمصارحة بطليها شاهندة ورستم كل منهما للآخر عن نفسه وعن نشأته وعن جده الأكبر، لتكون نهاية مقبولة ومقنعة، تجعل المتلقي شريكًا مع الكاتبة في وضع النهاية التي يراها، قابلًا لتلك العلاقة النفسية والفكرية التي نشأت في صمت بين بطليها، وتسلم الكاتبة إلى المتلقي في إيثار محمود ورضاء مقبول أسرار اللعبة السردية، ليمسك بها في حالة من الشغف الشديد، والفضول لمعرفة ما قد ينجم عن هذه العلاقة، فيبدع في وقت النهاية التي يرتضيها، والتي يقبلها ليزيد بها متعته التي يخرج بها من تلك الرواية الشائقة ، فيعمل المتلقي – كل حسبنا يروق له – عقله في التفكير، ليضع نهايات لتلك العلاقة، فمنهم من يرى انهاء الرواية بالزواج بين بطليها، ومنهم من يرى أن يمضي كل إلى حال سبيله، ومنهم من يرى أن تظل العلاقة بينهما علاقة عمل في مشروع يجمع بينهما، لكن في النهاية كانت النهاية مفتوحة تليق بأحداث مكثفة امتدت عبر عصور مختلفة وأماكن متفرقة وأجناس غير متآلفة من البشر، لا يجمع بينهم سوى تلك العلاقات العاطفية الوجدانية بأنواعها المختلفة والتي تربط بين الأحداث والأشخاص والأماكن.