عادل عبدالصبور يكتب : في ذكرى وعد بلفور المشؤوم.. التحية للمقاومة الفلسطينية
في مثل هذا اليوم، منذ مئة وستة عام وبالتحديد في الثاني من نوفمبر عام 1917 صدر وعد بلفور المشؤوم، الذي منحت بريطانيا بموجبه حقاً لليهود في تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين، بناءاً على المقولة المزيفة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، ونصه:
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علماً بهذا التصريح.
بهذا الوعد تحققت العبارة الشهيرة ‘لقد أعطى من لا يملك وعداً لمن لا يستحق’، ليكون ذلك اليوم هو أسود يوم في تاريخ الشعب الفلسطيني والعرب ، بل في تاريخ البشرية كلها، وانهيار تام للعدالة والشرعية الدولية.
كان هذا الوعد بمثابة الخطوة الأولى لأوروبا ودول الغرب وأمريكا على طريق إقامة دولة لليهود على أرض فلسطين استجابة لرغبات الصهيونية العالمية على حساب الشعب الأصلي الذي يعيش على هذه الأرض منذ آلاف السنين.
جاء الوعد موجه من قبل وزير خارجية بريطانيا آنذاك (آرثر جيمس بلفور) في حكومة ديفيد لويد جورج إلى اللورد روتشيلد (أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية) وذلك بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة، واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى، استطاع الصهاينة من خلالها إقناع بريطانيا بقدرتهم على تحقيق أهدافها، والحفاظ على مصالحها في المنطقة، وأهمها إضعاف النفوذ التركي في المنطقة وعزل مسلمي وعرب آسيا عن مسلمي وعرب إفريقيا لتهيئة الظروف لتقسيم المنطقة من جديد لصالح المملكة المتحدة وحلفائها وهو ما كتبه تيودور هرتزل الكاتب النمساوي مؤسس الحركة الصهيونية للحكومة البريطانية : “سنكون بالنسبة إلى أوروبا، جزءاً من حائط يحميها من آسيا، وسنكون بمثابة حارس يقف في الطليعة ضد البربرية”. وهناك دوافع وأسباب أخرى، منها، رغبة بريطانيا في كسب تأييد يهود العالم لها أثناء الحرب العالمية الأولى، وتقليص موجات الهجرة اليهودية نحو أوروبا وتحويلها باتجاه فلسطين لما تحمله هذه الهجرات من أعباء وتبعات تضر ببريطانيا ودول أوروبا.
كانت الحكومة البريطانية قد عرضت نص تصريح بلفور على الرئيس الأمريكي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميا سنة 1918م، ثم تبعها الرئيس الأمريكي ولسون رسمياً سنة 1919م وكذلك اليابان.
في25 إبريل سنة 1920م، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر “سان ريمو” على أن يعهد إلى بريطانيا بالإنتداب على فلسطين، وأن يدخل وعد بلفور حيز التنفيذ حسب ما ورد في المادة الثانية من صك الإنتداب.
في 24 يوليو من عام 1922م وافق مجلس عصبة الأمم المتحدة على مشروع الإنتداب الذي دخل حيز التنفيذ في 29 أغسطس من عام 1923م، وبذلك يمكننا القول أن وعد بلفور كان وعداً غربياً وليس بريطانياً فحسب.
في المقابل اختلفت ردود أفعال العرب تجاه التصريح بين الدهشة، والإستنكار، والغضب.
لذا أرسلت بريطانيا رسالة إلى الشريف حسين حاكم فلسطين وقتها ، بواسطة الكولونيل باست تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالإستيطان اليهودي في فلسطين إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب من الناحيتين الإقتصادية والسياسية، لكنها في الوقت نفسه أصدرت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية ، بأن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة حاييم وايزمن (خليفة هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية ) كما عملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمة لهم.
أما الشعب الفلسطيني فلم يستسلم لهذا الإحتلال الغاشم، بل خاض ثورات متلاحقة، كان أولها ثورة البراق عام 1929م، ثم تلتها ثورة 1936م وتوالت بعدها ثورات وانتفاضات عدة، ومازال يكافح من أجل تحرير أرضه والحصول على حقوقه.
من جهتها اتخذت الحركة الصهيونية العالمية وقادتها من هذا الوعد مستنداً قانونياً لتدعم به مطالبها المتمثلة في إقامة وطن قومي في فلسطين، بعد انتقالها من مرحلة التنظير لأفكارها إلى حيز التنفيذ في أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م، والذي أقرّ البرنامج الصهيوني، وأكد على أن الصهيونية تكافح من أجل إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين.
على الرغم من ظهور معارضة شديدة لهذا التوجه من قبل اليهود الليبراليين الذين استطاعوا الإندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها، ورأوا في هذا التوجه دليلاً قد يتخذه ما يسمى بأعداء السامية على عدم قدرتهم على الإندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، إلا أن هذه المعارضة لم يكن لها أي تأثير على التوجه العام للحركة الصهيونية .
تمكن اليهود من إستغلال وعد آرثر بلفور المعروف بقربه من الحركة الصهيونية، ومن قرار الجمعية العامة عام 1947م القاضي بتقسيم فلسطين، ليحققوا حلمهم بإقامة إسرائيل في الخامس عشر من أيار (مايو) من عام 1948م، وليحظى هذا الكيان بعضوية الأمم المتحدة بضغط الدول الكبرى، ولتصبح إسرائيل أول دولة في تاريخ النظام السياسي العالمي التي تنشأ على أرض الغير، وتلقى مساندة دولية جعلتها تتوسع في المنطقة وتحتل المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، وتقتل وتعتقل الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني على أرضه دون رحمة .
أما بلفور نفسه فبرّر إصدار الوعد انطلاقاً من دوافع إنسانية، في حين رأت فيه مصادر إسرائيلية تاريخية مكافأة للباحث اليهودي حاييم وايزمن لخدمته بريطانيا باكتشافات علمية خدمت الأنشطة العسكرية البريطانية إبان الحرب العالمية الأولى .
إقامة دولة يهودية في فلسطين بموجب وعد بلفور باطل من الناحية القانونية، وبالتالي فان كل ما نتج عنه، وكل ما تأسس عليه فهو باطل. فالوجود البريطاني في فلسطين كان مجرد إحتلال، ولا يمنح الإحتلال ، أو الإنتداب الدولة المنتدبة حق التصرف بالأراضي الواقعة تحت وصايتها، أو أي جزء منها، وفلسطين ليست جزءاً من الممتلكات البريطانية، حتى تمنحها لمن تشاء، خاصة أن الحكومة البريطانية كانت تعلن في مناسبات كثيرة أن الهدف من إحتلالها هو تحرير فلسطين من السيطرة العثمانية، وإقامة حكومة وطنية فيها. من هنا يرى خبراء القانون الدولي أن تصريح بلفور ليس له صفة الإلزام القانوني، فهو تصريح من جانب واحد، لا التزامات متقابلة فيه، وقد صدر في صيغة رسالة موجهة من وزير الخارجية إلى أحد رعايا الدولة ذاتها، فليس لهذا التصريح صفة المعاهدة أو الإتفاق أو العقد الدولي.
لقد جعل تصريح بلفور فلسطين وطناً لليهود على حساب الشعب الفلسطيني “السكان الأصليين” ، حيث لم يكن في فلسطين من اليهود عند صدور هذه الورقة “الوعد” سوى خمسين ألفاً من أصل عدد اليهود في العالم حينذاك، والذي كان يقدر بحوالي 12 مليوناً، في حين زاد عدد سكان فلسطين من العرب في ذلك الوقت عن 650 ألفاً من الفلسطينيين يعيشون على أرضها منذ آلاف السنين ورغم ذلك الوعد المشؤوم تجاهلهم ولم يعترف لهم إلا ببعض الحقوق المدنية والدينية، متجاهلًا حقوقهم السياسية و الإقتصادية والإدارية.
فضلا عن ذلك، فان هذا الوعد يتعارض مع أحد أهم مبادئ القانون الدولي، ألا وهو مبدأ حق تقرير المصير الذي طالما نادى به الحلفاء وادعوا أنهم منحازون إليه وساعون إلى تطبيقه في كل مكان، إلا أن الوعد المشؤوم الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا تنكر لحقوق الشعب الفلسطيني.
ما زالت الجريمة التي كان ضحيتها الشعب الفلسطيني ماثلة أمام العالم، وما زال آثارها ترهق كاهل الشعب الفلسطيني الذي تستمر معاناته بسبب هذا الوعد، فالنكبة شرّدتهم من ديارهم عام 1948م، ودمرت منازلهم عام 1967م، ولا زال القتل والتدمير وكل أشكال الانتهاكات مستمرة حتى الآن.
مازالت دولة الإحتلال تجد من يحميها و يدعمها ويمدها بالسلاح المتطور الفتاك والمحرم دوليا، ويمنحها الضوء الأخضر لإبادة الشعب الفلسطيني، بل ويرعاها فيقدم “صفقة القرن” التي تعد امتداداً لوعد بلفور بهدف شطب القضية الفلسطينية وتصفيتها.
أن الأجيال الفلسطينية والعربية المتعاقبة لن تغفر لمن ارتكب هذه الجريمة المستمرة التي كانت الأساس في تشريد الشعب الفلسطيني من وطنه ومعاناته وتجريده من كل حقوقه المشروعه، وتركيعه، وطرده من أرضه، وتجويعه وقتله نهاراً جهاراً أمام العالم الذي لم يعد يهتم إلا بالمصالح، وتجرد من الإنسانية.
مايجري الآن من حروب شرسة على الأراضي الفلسطينية المحتلة يثبت أن الشعب الفلسطيني، لن يترك أرضه، ولن يفرط في شبر منها، وأن طوفان الأقصى لن ينتهي وأن المقاومة مستمرة ولن تموت، وستبقى حتى تنال حقوق شعبها الأبي الصامد في إقامة دولتهم وبسط سيادتهم
مهما طال الزمن ومهما تغيرت موازين القوى.
نعم كانت فلسطين على مر الزمن مطمعاً للغزاة وللإستعمار البغيض، وقدر شعبها أن يقاوم وحده، من أجل حريته واستقلاله، وكرامته، وسط صمت عربي، وخيانة عربية ليس لها مثيل، بإستثناء، مصر العروبة، التي كانت ومازلت وستظل تتبناها و تدافع عنها وتدعمها بكل ماتملك من قوة وإمكانيات باعتبار القضية الفلسطينية هي قضية العرب الرئيسية.
عملية طوفان الأقصى ماهى إلا رسالة لكل من يعتقد ان حقوق الشعوب تموت بالتقادم، أو أن القضية الفلسطينية انتهت وعلى أصحاب الأرض والحق أن يستسلموا وأن يقبلوا بهذا الوضع المهين، من حصار وقتل وترويع للآمنين،ودرساً مهماً وقاسياً لدعاة التطبيع وللذين يهرولون إلى قبلة الصهاينة المستعمرين.
تحية إلى المقاومة الفلسطينية وتحية إلى شعب فلسطين المكافح وتحية إلى كل من يدعم الأشقاء الفلسطينيين في معركتهم من أجل البقاء وفي المقدمة مصر، وبإذن الله وبفضل المقاومة ستنتصر إرادة الشعب الفلسطيني ويحصل على حقوقة المشروعة في الحياة ويسترد أرضه لأنه وعدالله الذي وعدنا به.