آراء

شعبان شحاتة يكتب : فطنة وفراسة

خاصم غلام من الأنصار أمه إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه،فجحدته، فسأله البينة فلم تكن عنده وجاءت المرأة بنفر فشهدوا أنها لم تتزوج وأن الغلام كاذب عليها، وقد قذفها، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بضربه فلقيه على رضي الله عنه فسأل عن أمرهم. فأخبر، فدعاهم فأخبر، فدعاهم ثم قعد في مسجد النبی ﷺ، وسأل المرأة فجحدت فقال الغلام : اجحدها كما جحدتك فقال : يا ابن عم رسول الله – ﷺ -، إنها أمي، قال : اجحدها وأنا أبوك والحسن والحسين أخواك،

قال : قد جحدتها وأنكرتها .فقال علي – رضي الله تعالى عنه ـ لأولياء المرأة : أمري في هذه المرأة جائز؟ قالوا: نعم وفينا أيضاً، فقال علي : أشهد من حضر أني قد زوجت هذا الغلام من هذه المرأة الغريبة عنه، يا قنبر ائتني بطينة فيها دراهم ، فأتاه بها فعد أربعمائة وثمانين درهماً. فدفعها مهراً لها، وقال
للغلام : خذ بيد امرأتك، ولا تأتينا إلا وعليك أثر العرس،

فلما ولى قالت المرأة : يا أبا الحسن الله الله هو النار، هو والله ابني ، قال : وكيف ذلك؟ -قالت : إن أباه كان زنجياً ـ وإن أخوتي زوجوني منه، فحملت بهذا الغلام وخرج الرجل غازياً فقتل، وبعثت بهذا إلى حي بني فلان فنشأ فيهم، وأنفت أن يكون ابني، فقال علي : أنا أبو الحسن، وألحقه بها وثبت نسبه .

تحليل القضية :القضية تنحصر في شخص يدعي على امرأة بأنها أمه، وعجز عن إثبات ما ادعى به، وجاءت المرأة بشهود شهدوا على أنها لم تتزوج وأن المدعي كاذب عليها وقد قذفها .

وإلى هنا والقضية انتهت بعدم ثبوت صحة ما أدعى به المدعي وهي في منتهى الغموض .وأثناء مرور علي رضي الله تعالى عنه ـ وسؤاله عن الأمر وإخباره به تفرس في المدعي وما ادعى به وما انتهى إليه أمره، فظهر له أنه صادق في
دعواه، ويدل على ذلك طلبه لأطراف القضية وجلوسه للنظر في قضيتهم، إذ لو لم يظهر له ذلك بفراسته لم يطلبهم واعتبر الموضـوع معهم منتهياً .

وكما ذكرنا فإن الحكم لا يبنى على مجرد الفراسة فقط لعدم وجود القرينة القوية، فلا بد من الاجتهاد في البحث عن الطريق الموصل إلى إثبات صحة ما تفرس به المتفرس، ومن ثم إظهار الحق جلياً على لسان المنكر باعترافه وإقراره، فما هو الطريق الذي أخذ به علي رضي الله تعالى عنه لذلك؟ لقد كان الطريق ابتكار حيلة من الحيل، فقال للمدعي :اجحدها، فرفض في أول الأمر لأنه لا يدري ما المقصود من ذلك، فأصر على طلب الجحد ورغبه في ذلك حيث قال له: أنا أبوك والحسن والحسين أخواك ـ حثاً له على تنفيذ ما أمره به – فجحدها وهنا البداية في حل غموض هذه القضية .

ثم تأتي المرحلة الثانية لحل غموض هذه القضية، فقال علي –
رضي الله تعالى عنه ـ لأولياء المرأة : أمري في هذه المرأة جائز؟ قالوا :نعم وفينا أيضاً، فقال : أشهد من حضر أني قد زوجت هذا الغلام من هذه المرأة الغريبة منه. ودفع المهر وقال للمدعي : خذ بيد امرأتك ولا تأتينا إلا وعليك أثر العرس .وهنا يأتي حل الغموض في هذه القضية. فقد وضع المرأة المنكرة وحصرها في حيز لا تستطيع فيه التملص من الحقيقة، لا سيما في تأكيده على المدعي بأن لا يأتيه إلا وعليه أثر العرس، وهو إجراء إن دل على شيء فإنما يدل على منتهى الذكاء والفطنة، فالمرأة المنكرة بين حالين :إما أن تكون صادقة فلا حرج عليها حينئذ من هذا الزواج وإما أن تكون كاذبة فلا يحل لها أن تتزوج ابنها، ومن ثم فليس أمامها سوى قول الحقيقة فنطقت بها على لسانها : الله الله هو النار هو والله ابني، وأوضحت السبب في إنكارها له في أول الأمر.

فتوصل علي رضي الله تعالى عنه بفراسته إلى الطريق الموصـل لإثبات صحة ما تفرس به من صدق المدعي وكذب المدعى عليها، ومن ثم إظهار الحق على لسانها بإقرارها بأنه ابنها. فالقضية إذا انتهت بالإقرار

زر الذهاب إلى الأعلى