مع خيارات التحولات الكبرى التي شهدتها منطقتنا، سواء أكانت مرتبطة بالاتجاهات السياسية أو الخيارات الإيديولوجية – المعتقدات والأفكار -، لكثير من الدول العربية، منذ بداية العقد الثامن من القرن الماضي، واستمر مع الألفية الثانية، إلى أن وصلنا لمرحلة قيام دول الطوق بتوقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل، تبعتها موجة تطبيع عربي مجاني مع الكيان الصهيوني المحتل، حتى ظن البعض أنه إعلان ” وفاة للقضية الفلسطينية” عروبيا، فجاءت حرب غزة العزة لتعيد الروح من جديد لفلسطين كقضية العرب الأولى .
كان لعملية طوفان الأقصى، التي انطلقت من قلب غزة العزة، ونفذتها عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الفلسطينية (حماس)، في عمق كيان الإحتلال الصهيوني الإسرائيلي دلالاته من حيث الزمان والمكان، إذ جاءت في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر المجيدة عام 1973، ليعيد للإسرائيليين مشهد الهزيمة المذلة، وهشاشة القوة التي لا تقهر، وضربهم من جديد في عقر دارهم، بشكل مباغت أفقدهم توازنهم، وهز ثقة المواطن الإسرائيلي في جهازه الإستخباراتي في القدرة على توفير الأمن .
أعادت حرب غزة العزة القضية الفلسطينية إلى المشهد العربي، والإقليمي والدولي، بعد أن تم تعليبها وحفظها في الثلاجة العربية، وتقديمها على طاولة إجتماعات العرب، كطبق لا يشتهيه إلا القليل، كما تراجع حظها من مساحة النقاش خلال القمم الدورية على مختلف الأصعدة، إن لم يكن استسلاما لواقع فرضه الكيان الصهيوني الإسرائيلي، الذي رفض التعاطي حتى مع مبادرة السلام في قمة بيروت عام 2002، فهو بفعل المستجدات، والمتغيرات، والحراك الثوري الذي هز كثيرا من الأنظمة بالمنطقة، وفرض على الجميع الانكفاء على الذات، والانشغال بالهموم الوطنية الداخلية، على حساب القضايا القومية.
أثبتت الأيام أن القضية الفلسطينية عصية على الكسر، ومهما طال ليل الاحتلال، فلابد أن ينجلي، وتشرق شمس التحرر، بفضل تضحيات شهداء حرب غزة العزة، ومواقف أبطال حماس، وقدرتهم على أن يؤرقوا مضاجع قادة الصهيونية، وتعكير أجواء السياسية الإسرائيلية، وجعل الحياة في إسرائيل مثل الكابوس للمستوطنين، وهز ثقتهم في منظومتهم العسكرية، بعد فشل سلاحها “الشعاع الحديدي” أو “منظومة الصاعقة” أو ” السور الليزري”، في توفير الحماية أو بناء جدار أمني، حتى أن مستقبل بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، أصبح ضبابيا، أمام تزايد حالات السخط وعدم الرضا الداخلي.
ومن المفارقات المثيرة للدهشة، أنه في الوقت الذي نجحت فيه حرب غزة، من حدوث مراجعات غربية – تحت ضغط الرأي العام الداخلي – في المواقف المنحازة لإسرائيل، وبدء الحديث عن حقوق الفلسطينيين المشروعة التي تقرها لهم الشرائع الدولية، والقوانين والمواثيق الأممية في إقامة دولتهم المستقلة، يخرج علينا بعض النباحين، والمأجورين، وعبيد الأمريكان المتغلغلين في صفوف الإعلام، ومنهم الإعلامي الشهير ” أبوحمالات “، ليهاجم قادة الحركة الإسلامية الفلسطينية ” حماس”، ويتهمهم بأنهم خونة، يبيعون الوهم للأمة العربية بالقدرة على تدمير إسرائيل، بينما الثمن إراقة دماء الآلاف من الشعب الفلسطيني، فضلا عن تدمير كامل لمدن وللبنية التحتية.
مثل أبوحمالات، ومن سار على نهجه من الاعلاميين، بعضهم مأجور، تحركه أجندة ممولة بأموال صهيونية – أمريكية، رسالتهم إجهاض الأمل، وغرس بذور اليأس في نفوس الأجيال الجديدة، والدعوة إلى التسليم، وإن شئت قل الاستسلام، والرقص على نغمة التطبيع والمهرولين للتطبيع، بل وإحتضان الكيان الصهيوني الإسرائيلي في خارطة شرق أوسط جديد، تذوب فيها القضية الفلسطينية، ويتم عليها صلاة الميت قبل وفاته، ويغفل هؤلاء، أن جراح غزة ودماء آلاف الشهداء، تعييد الروح للقضية، وهي آلام مخاض للتحرر من الاحتلال، وإجبار إسرائيل على الانسحاب من العربية المحتلة، وإقامة دولة للفلسطينيين، وعاصمتها القدس.. وكما قال الشاعر فؤاد حداد: ” غير الدم محدش صادق.. من أيام الوطن اللاجئ .. إلى يوم الوطن المنصور “.
كاتب صحفي
Moiharby1968@yahoo.com