آراء

د. حسنى ابوحبيب يكتب : مواقف الخزي والعار

كتب عبدالعظيم القاضى

قال تعالى”وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ” (الأنفال: 7).إن مواقف الخزي والعار لا يعادلها في الشهرة والخلود إلا مواقف المجد والفخار، والتاريخ لا ينسى، وأحكامه لا تخطئ، وهذا القول الكريم نزل عتاباً لقوم قدّموا الدنيا على الآخرة، وتمنّوا العير وكرهوا النفير، في لحظة ضعف منهم، وقالوا لرسولنا صلى الله عليه وسلم يوم بدر: خرجنا طلباً للعير ولم نخرج للنفير فهلّا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، ومع ذلك فقد أعلن أكثرهم طاعة الله ورسوله في جهاد من حارب دينه، وقالوا له جميعاً بعد المشورة والمراجعة بلسان حالهم ما قاله سعد بن معاذ بلسان مقاله: حارب من شئت وسالم من شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت، وما أخذت منها كان أحب إلينا مما تركت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه خلفك ما تخلّف منّا أحد.

وعلى الرغم من أنهم بعد المشورة أجمعوا أمرهم على مواجهة عدو الله وعدوهم، فكان لهم النصر على قلة عددهم وعدّتهم، ومع ذلك نزل هذا القول عتاباً لهم لترددهم أول الأمر.

وما ذهب ما ذهب من دول الإسلام وأرضه بداية من الأندلس وختاماً بفلسطين إلا بمنطق التردد والجبن والفردية ورمي التهم واتهام كل أمير أخاه بالخيانة والتقصير، وخوف كل أمير على ما بيده، وذهاب النخوة، وموت المروءة، ومولاة العدو وموادعته، ورحم الله المتنبي إذ يقول:

‏إذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدِّ * فَمِنَ العَـارِ أَنْ تَمُـوتَ جَبَانَـا
ومازلنا نكرر قول أبي فراس الحمداني ونترحم عليه وعلى نخوته ومروءته:

وَالضّرّ هُوَ المَوْتُ فاختَرْ ما عَلا لك * ذِكْرُه فلمْ يمتِ الإنسانُ ما حييَ الذكرُ ولا خيرَ في دفعِ الردى بمذلة * كما ردّها يوماً بسوءتهِ عمرو فإنْ عِشْتُ فَالطّعْنُ الذي يَعْرِفُونَه * وتلكَ القنا والبيضُ والضمرُ الشقرُ وَإنْ مُتّ فالإنْسَانُ لا بُدّ مَيّتٌ * وَإنْ طَالَتِ الأيّامُ وَانْفَسَحَ العمرُ

وقارئ التاريخ والمتأمل أحداثه ووقائعه، يرى أن هناك أجيالاً لا يذكرها التاريخ إلا مقرونة بالخزي والصغار، لا لشيء إلا لأن مروءتها قد ذهبت ونخوتها قد ماتت، ففرطت في شرفها وشرف أمتها، وخانت دينها وأوطانها، في المقابل يجد أجيالاً لا تُذكر إلا لتُحمد وتُشكر، فهي حيَّة أبداً بما قدّمته من تضحيات لقضايا دينها وأمتها.

وممن نالوا مدح التاريخ لهم، وثناء الزمان عليهم، لمواقفهم التي لا تتبدل ولا تتغير أبناء الكنانة، خير أجناد الأرض، فما وقعت الأمة عبر تاريخها في ضيق وعسر إلا جعل الله على يدهم الفرج واليسر، ولا غرو فهم جند مصر، حقيقة لا مراء، وواقعاً لا مدحاً ولا ثناء، وللمتذبذبين الشاكّين نقول: راجعوا يوم حطين، ولكي تتأكدوا مما لهؤلاء الجند من عزم وصدق وجبروت عرّجوا بعد حطين على عين جالوت، وإن كنتم ما زلتم في ريب مما دَوَّنه التاريخ وكتبه الزمان فعليكم بالوقوف على ما كان في العاشر من رمضان.

وتأتي الأحداث الأخيرة – أحداث غزة- لتبرهن على مواقف أولئك الجند الصادقة، ولتكتب بمداد الفخر وحروف العزة ما كان من مصر لأهل غزة، فإمدادها لهم موصول سرّاً وعلانية، فالمعبر فوق الأرض يمد بالقوت والميرة، والأنفاق تحت الأرض تمد بالسلاح والزخيرة، وفوق ذلك عمل دؤوب ليلاً ونهاراً على المستوى السياسي، شهد ببراعته الداني والقاصي، حتى استطاعت وقف الحرب ولو لفترة موقوتة، ولا يعادل نجاحها في ذلك إلا نجاحها في نفخ الروح في تلك القضية التي كانت في حالة احتضار، فعادت حيّة تشعر بحياتها شعوب الأرض قاطبة، واستطاعت أن تخلق أنصاراً لها حتى من بين اليهود أنفسهم.

ولا يتخيل أحد أن الهدنة التي توصّلت إليها مصر جاءت من فراغ، بل إنها ما جاءت إلا بعد أن قلبت مصر لعدوها ظهر المجن وكشّرت عن أنيابها، ومارست الدبلوماسية الخشنة في أوضح وأقوى صورها، ذلك أنها أخبرت جميع الأطراف بما فيهم أمريكا بأنها ستقوم بخلق منطقة آمنة داخل القطاع، وتحت الحماية المباشرة من الجيش المصري بالقوة ، وستقوم بإدخال ما تشاء من إغاثات ومواد إعاشة لسكان القطاع، حتى أجبرت العدو على القبول بأشياء كانت إسرائيل ترفض حتى مناقشتها، كوقف طلعات الطيران الاسرائيلي على كامل القطاع، وأيضا كيفية تأمين خروج الرهائن من المخابئ والأنفاق دون رصد لهذه الأماكن من الجانب الإسرائيلي، ثم تأمين خروجهم من القطاع حتى يصلوا للمعبر.

وصدق القائل:

والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعا * وإن تلقه بالشر ينحسم
لا شك إن التاريخ في هذه الأيام تعاد كتابته ليظهر المؤمن من المنافق والصادق من الكاذب، ولكي يتضح لكل الناس من يدافع عن القضية الفلسطينية ممن يتاجر بها للحصول على مكاسب رخيصة، إننا لم نر طيلة أيام الحرب على غزة جماعات كانت تدّعي أنها جند الإسلام، فأين داعش؟، بل أين أنصار بيت المقدس؟!، وأين أصحاب الخطب الرنانة؟!، لا نحس منهم من أحد ولا نسمع لهم ركزاً، كأنهم موتى لا حراك لهم.

والأعجب من ذلك أننا نجد من بين تلك الجماعات التي هي أقرب إلى الصهيونية ينتقدون موقف مصر، ويريدون منها دخول الحرب، وفي ظنّي أنهم كانوا يقولون ذلك بدافع الخبث والعمالة للقضاء على القضية الفلسطينية برمتها، فهم يعلمون أن مصر متى دخلت الحرب فإن العالم أجمع سينسى تلك القضية وينشغل عنها بمصر، كما أن مصر متى دخلت الحرب فلن تستطيع مدّ يد العون لأخوانها في غزة، وبذلك ينقطع المدد عنهم، فإن لم يموتوا بقصف إسرائيل ماتوا عطشاً وجوعاً، فهم يعلمون جيّداً أن غزة لا منفذ لها إلا معبر رفح، أرأيتم مدى الخيانة وماذا تصنعه بأهلها؟.

إن واجب العرب جميعاً في هذه الأيام أن يلتفوا حول قادتهم وأن يحافظوا على أوطانهم متماسكة غير ممزقة، وأن يقدموا المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وأن ينشروا الوعي بمدى خطورة المرحلة وليحذروا خبث العدو ومكره.

وختاماً، فتحية إجلال وتقدير لكل من يعمل على رفعة هذه الأمة والدفاع عن قضاياها، وتحية للسياسة المصرية والقيادة الحكيمة التي تعمل ليل نهار على حماية الأوطان وبنائها، وتحية إجلال للشعب الفلسطيني الحر الذي اختار الموت على فراق وطنه وأرضه.

نسأل الله تعالى أن يكشف الغمة وأن ينصر الأمة وأن يحرر أرض فلسطين من الغاصب المحتل وأن يرزقنا صلاة في مسجده الأقصى المبارك

زر الذهاب إلى الأعلى