آراء

د . حسنى ابوحبيب يكتب : كثير الحلف كثير الكذب

“وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهم يعلمون” [المجادلة: 14].لا شكّ أن من علامات الكذّاب وآياته كثرة حلفه دون داعٍ، وتعدد أيمانه بغير مبرر، وغالباً ما يكون كثير الحلف كثير الكذب، لذا وصفه الله تعالى بالمهين، فقال جل شأنه: “وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ” [القلم ١٠٦٨]، وهكذا كل من أكثر الحديث عن شيء فاعلم أنه محروم منه، مجرد عنه، ومن هنا نقول: إذا رأيت من يكثر الحديث عن الصدق فاعلم أنه كذاب، وإذا رأيت من يكثر الحديث عن الأمانة فاعلم أنه خائن، وإذا رأيت من يكثر الحديث عن الأصل فاعلم أنه خسيس، وإذا رأيت من يكثر الحديث عن الوطن دون مبرر فاعلم أنه لا انتماء له، فكلٌ يكثر الحديث عما يفتقده.

نزل ذلك القول الكريم في رجل منافق يدعى عبد الله بن نبتل كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينما رسول الله في حجرة من حجره، إذ قال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار، ينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له رسول الله: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فعلت، فانطلق، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم توعدهم الله تعالى بقوله: “أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ” [المجادلة: 15 : 17]، وما أكثر النباتل في هذا الزمان.

لذا اعلم يا رعاك الله إن في أراذل الناس تكمن جوانب خفية ومشاعر مكبوتة لا يراها إلا من كَمُنت بهم وكُبِتت فيهم، وبما أنهم يرونها على الدوام شاخصة بين أعينهم، فهم يخشون من أن يراها غيرهم فيهم، لذا يحاولون جاهدين إظهار عكسها، وإخفاء رسمها، بأحاديثهم الموصولة المملولة عمّا من شأنه محو رسمها منهم، وإبعاد شخصها عنهم، وإلصاق عكسها بهم.

فترى الكاذب مثلاً لا حديث له إلا عن الصدق والصادقين، وهو دائماً وأبداً يعمل على إثبات صدقه بالحلف الكاذب والأيمان المغلّظة، لعلمه في قرارة نفسه أنه كاذب، ولقد صدق ربنا بوصف هذا الصنف من خلقه بالمهانة والوضاعة وأمرنا بعدم تصديقهم، فضلاً عن طاعتهم، فقال تعالى واصفاً إيّاهم: “وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ” [القلم ١٠٦٨].أي: ولا تطع كل شخص كثير الحلف بالباطل، حقير الرأي والفكر. (التفسير المنير للزحيلي). وقد ذكر لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه ممن لا يكلمهم الله تعالى ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: “…رجل جعل اللهَ بضاعته: لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه” (رواه الطبراني بسند صحيح).

كذلك ترى الخائن ومن لا أمانة له ولا ذمّة، ما أكثر حديثه عن الأمانة والوفاء، يريد بذلك دفع خيانته عنه، وقد ذكر لنا التاريخ على امتداده قصصاً لهؤلاء الخونة الذين كانوا أكثر الناس حديثاً عن الأمانة والإخلاص، وهم أخون الخونة، على رأسهم يأتي بالطبع: يهوذا الأسخريوطي، تلميذ المسيح وتابعه، الذى وشى به بعد أن تواطأ عليه مع الكهنة وهم أكثر الناس حديثاً عن الوفاء والإخلاص، حتى أسلموا المسيح عليه السلام للصلب، فما كان لهذا الخائن إلا أن ألقى الله عليه شبه المسيح فأخذه الكهنة بدلاً منه ظناً منهم أنه المسيح فصلبوه، ورفع الله المسيح إليه.

ثم يأتي من بعده بروتس أحب أصدقاء يوليوس قيصر إليه ومحل ثقته، والشخص الأقرب إلى قلبه، حتى قيل إنه كان ابناً له لكثرة ما أغدق عليه، ومنحه من الأوسمة والمناصب، لكنه خان سيده وشارك في عملية اغتياله، وكان من بين من طعنوه حتى قال له سيده قولته المشهورة: حتى أنت يا بروتس إذن ليمت القيصر.

كما يحكي لنا التاريخ خيانة أبي رغال لوطنه حتى رضي أن يكون دليلاً لأبرهة، ثم يذكر لنا التاريخ أيضاً خيانة ابن العلقمي ذلك الاسم الذي ارتبط بجريمة من أفظع الجرائم، وكارثة من أخطر الكوارث، وهي سقوط بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية في أيدي التتار، وقد كان ذلك الخائن وزير المستعصم العباسي، اشتغل في صباه بالأدب، ووثق به المستعصم فألقى إليه زمام أموره، وكان حازمًا خبيراً بسياسة الملك، كاتباً فصيح اللسان قوي البيان.

وبالطبع كان هؤلاء الخونة من أكثر الناس حديثاً عن الأمانة والوفاء لسادتهم ولأوطانهم، ومن أمثال هؤلاء حَذِر رسولنا الكريم وحذَّر، وخاف وخوّف، فقال صلى الله عليه وسلم: “إن أخْوَف ما أخاف على أمتي كلُّ منافقٍ عليمِ اللسان”

وحدّد صلى الله عليه وسلم ملامحهم وكشف عن صفاتهم، بأنهم يظهرون العدل ويضمرون الجور، تنطق ألسنتهم بالحكمة، والظلم يملأ جنانهم، فقال صلى الله عليه وسلم: “إنما أخاف على هذه الأمة كل منافق يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور” [شعب الإيمان] ، ومن صفاتهم أيضاً أنهم حادّوا الألسنة أقوياء الجدل، فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم: “أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ جِدَالُ الْمُنَافِقِ عَلِيمِ اللِّسَانِ”.

ولا يزال أحفاد هؤلاء الخونة يقومون بما قام به أسلافهم من تخريب للعامر من بلادنا، وتخويف للآمن من أهلنا، وما دُمِّرَ شامنا وخُرِّب يمننا ومُزِّق مشرقنا وشُتّت مغربنا وقُسِّم سوداننا إلا بفعل هؤلاء الخونة. وما نجت من بينهم إلا مصرنا بحفظ الله إياها ثم بوفاء خير أجناد الأرض لها.

أيضاً إذا رأيت من يكثر الحديث عن الأصل ويكثر من مدح نفسه، فاعلم أنه خسيس لا أصل له ولا فصل ، إنما يريد أن يرفع خسيسته وينفي عنه نقيصته بذاك الحديث المكرور، وقد نهانا ربنا عز وجل عن تزكيتنا لنفوسنا بالكلام أمام الناس، فقال تعالى”فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى” [النجم:٣٢]. وقد أخبرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن حسب الإنسان ليس إلا في دينه، وكرمه ليس إلا في تقواه، فقال: “كَرَمُ المُؤْمِنِ تَقْوَاهُ، وَمُرُوءَتُهُ عَقْلُهُ، وَحَسْبُهُ دِينُهُ”. (مسند أبي يعلى).

لذا كان كلّ مَن يكثر من مدح نفسه أخسَّ الناس وأنقصهم، فما من شخص يحب أن يمدح نفسه أمام الناس إلا وهو شخص ناقص ضعيف، يحاول تسليط الضوء على ما ليس فيه، وليس هناك أكثر غباءً ممن يمتدح نفسه، ثم يظن أن الناس يصدقونه.

كذلك متى رأيت من يكثرون الكلام عن الأوطان وحبها دون مبرر، فاعلم أنهم لا انتماء لهم لأي وطن، إنما انتماؤهم لأنفسهم فقط.

وعلى هذا أخي الحبيب قس أمر كل من يكثر الكلام أمامك عن شيء فاعلم أن ما حمله على الإكثار من الكلام عنه إلا لأنه يفتقده على وجه الحقيقة، فكما قيل قديماً: “الجعان لا يحلم إلا بسوق الخبز”.

كلّ هؤلاء ومن على شاكلتهم ما أكثر أيمانهم وحلفهم وهم يعلمون في قرارة نفوسهم أنهم كاذبون مخادعون، يتخذون من أيمانهم جنة ووقاية يسترون بها ما انطوت عليه نفوسهم من كذب وخيانة وخسّة، لكن هيهات فإن الله فاضحهم ومهينهم على رؤوس الأشهاد. هذا والله نسأل أن يجعلنا وإياكم من الصادقين.

زر الذهاب إلى الأعلى