دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب : الأرض تكفيك حيَّاً وتُؤيك ميّتاً

قال تعالى “أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً * أَحْياءً وَأَمْواتاً” [المرسلات: 25 ، 26]. هذا القول الكريم أتى من ربًّ كريم حنّان منّان يخاطب به قليلي اليقين من بني الإنسان، بدأه باستفهام يُقرُّهم من خلاله على صحة هذا القول المبين، الذي هو ظاهر للعيان، فلا يستطيع أن يُنكره مُنكِّر أو يشكك فيه جاحد، والمعنى: ألم نجعل الأرض ضامّة للأحياء على ظهرها في منازلهم، والأموات في بطنها، تضمهم وتجمعهم؟ قال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم. [التفسير المنير للزحيلي]،

وجاء لفظا: (أحياءً وأمواتاً) نكرتين، من باب تنكير التفخيم، كأنه قيل: تكفت أحياءً لا يعدون، وأمواتاً لا يحصرون. [الوسيط لطنطاوي].

قال بنان الحمّال خرجنا مع الشعبي إلى جنازة فنظر إلى الجبّانة فقال: هذه كفات الموتى، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء. [تفسير ابن عطية]، فجعل الله الأرض للعباد تكفيهم أحياءً وأمواتاً. [تفسير ابن فورك].

فالأرض منذ خلقها الله تعالى تُخرج بأمر ربّها لكلِّ دابَّة عليها ما يكفيها وزيادة، “فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدائِقَ غُلْباً * وَفاكِهَةً وَأَبًّا * مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ” [عبس: 24: 32]. وأوحى الرزَّاق سبحانه إلى كلِّ دابَّة أنَّ رزقها مضمون عنده مصون لديه، فقنع كلٌّ برزقه ما عدا بنو البشر، لذا تراهم يبغي بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، وهم يعلمون أنّ الأرض تكفيهم، ويتشاجرون على الرزق والقوت موفور بين أيديهم.

وكلَّما قلَّ اليقين زاد الجشع، وكلّما ذهب الإيمان ساد الطمع، لذا ترى المتنفِّذين سواء كانوا دولاً أو أفراداً يسعون إلى الاستحواذ على كلِّ شيء، بيد أنَّه من المسلَّمات لدى الجميع ومن الحقائق التي لا مراء فيها أنَّه لن يأخذ أحدٌ معه من دنياه إلى قبره شيئاً، فكما أنّ الجميع أتوها وهم عرايا كذلك منها يخرجون، “كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ” [الأعراف: ٢٩]، أروني إنساناً ملكاً كان أو أميراً أتى إلى الدنيا ومعه شيء، أو خرج ومعه منها شيء، فالكلُّ فيها، وما فيها يكفيها، والذي يخرج منها يعود فيها، “مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ” [طه: 55].

مرّ سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام على مدينة خربة فأعجبه البنيان، فقال: أي رب، مُرْ هذه المدينة أن تجيبني. فأذن الله لها بإجابته. فنادها أيتها المدينة الخربة: ما فُعِل بأشجارك وأنهارك وقصورك، وأين سكانك؟ قالت: يا روح الله جاء وعد ربك الحق، فيبست أشجاري، وجفَّت أنهاري، وخربت قصوري، ومات سكّاني. قال: فأين أموالهم؟ قالت: جمعوها من الحلال والحرام موضوعة في بطني، لله ميراث السماوات والأرض، فنادى عيسى عليه السلام: عجبت من ثلاث أناس: طالب الدنيا والموت يطلبه، وباني القصور والقبر منزله، ومن يضحك ملء فيه والنار أمامه، ابن آدم، لا بالكثير تشبع، ولا بالقليل تقنع، تجمع مالك لمن لا يَحْمَدُك، وتَقْدُم على رب لا يعذرك، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك، وإنما تملأ بطنك إذا دخلت قبرك.

إنّ الإنسان ما بين مجيئه إلى الدنيا وذهابه منها، هو ضيف على ربٍّ كريم، سخَّر له الكون بما فيه، وأعدَّ له فيه ما يكفيه، مائدته له في الأرض ممدودة، ليملأ منها بطنه ويَحمد ربَّه، لكنّه مع ذلك كان كنوداً جحوداً، فلا هو على ما وُهب يحمد، ولا بما في يده يقنع، من ثَمَّ إذا تأملت حال أكثر مَن في الأرض لا تراهم يمدون أيديهم إلا إلى قوت غيرهم، لا لأن قوتهم لا يكفيهم، بل لطمعهم وجشعهم لانعدام إيمانهم، ومن أعجب العجب أنك ترى من وسّع الله لهم في أرزاقهم هم أكثر الناس طمعاً في قوت غيرهم، ولطالما رأينا ونرى أفراد وجماعات بل رأينا دولاً أغدق الله تعالى عليها من عطاياه، وأفاض عليها من نعمه وهباته، تسطو على قوت دولٍ فقيرة معوزة، بل ربما قتلتها لا لحاجتها لقوتها، لكن لجشعها وطمعها.

فأبناء الدنيا لا يشبعون أبداً، وسيظل هذا حالهم حتى يهلكون بدداً، يأكلون بَيْد أنهم لا يشبعون، ويكنزون الذهب والوَرِق ولا يغتنون، فهم كالشارب من الماء المالح، كلّما ازداد شرباً كلّما ازداد عطشاً، وهكذا كلُّ من يأخذ المال من غير حلّه، “عن حَكِيم بْن حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وكان كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ” [السنن الكبرى للبيهقي].

“أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً؟!!” بلى. فالأرض تكفي الجميع كما أنّها للجميع، فإذا رأيت فيها معوزاً أو جائعاً، فاعلم يقيناً أنَّ هناك من سطى على قوته ورزقه، واعلم أنّ هناك خللاً ينبغي أن يُقوَّم، فربُّ الجميع ضمن رزق الجميع، فهم متساون في حدِّ الكفاف، متفاوتون فيما زاد على ذلك.

ومع أنّ الأرض كفاتاً للجميع فإن السماء هي التي فيها يُقرر رزق الجميع، فلا تُخرج الأرض شيئاً لمخلوق إلا بعد أن ينزل لها الأمر من السماء، “وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ” [الذاريات: 22]، حتى لا ينكبَّ الناس على الأرض وينسوا السماء، وليوقن الجميع بأن الرزق قسمة من عند الغنيِّ سبحانه، لا بعقل ولا بقوة يُنال، ولا بمكر ولا بحيلة يُطال، “نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ” [الزخرف: 32].

“أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً”، إذن فاطمئن أيها الإنسان فالأرض تكفيك حيَّاً، وتُؤيك ميّتاً، فمن أحياك وشقَّ فاك قد كفاك، فقرَّ عيناً وكن على يقين أنّ رزقك لم ولن يذهب لغيرك، وأنّ ما كان لك فسيأتيك وإن كنت ضعيفاً، وما ليس لك فلن تأخذه وإن كنت قوياً، فما كُتب لك قد حُرِّم على غيرك.

هذا، والله نسأل أن يكفينا ويُغنينا ويُرضينا، وأن يرزقنا اليقين ما حيينا. وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى