يوسف عبداللطيف يكتب: جريمة بدون عقوبة

في كل مرة يعتلي فيها وزير منصة السلطة، أو يقف نائب تحت قبة البرلمان أو الشيوخ، وتتردد في الأرجاء كلمات القسم الجليل “أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصًا على النظام الجمهوري، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه”، أغمض عينيّ وأستمع بخشوع، كأنني أمام طقس من طقوس الشرف الوطني.
القسم الدستوري ليس مشهدًا شرفيًّا، يتوهّم بعضهم أنهم يشاركون في طقس بروتوكولي عابر، بينما في الحقيقة هم يقفون على حافة الخيانة العظمى.
لكن سرعان ما تعود العيون إلى التحديق في مشهدٍ آخر، مشهد الانقلاب على هذا القسم، مشهد حنث اليمين، لا بالخيانة الفجّة فحسب، بل بالخذلان المتكرر، بالصمت حيث يجب الكلام، وبالانحناء حين كان الوطن يحتاج إلى من يقف.
ما معنى أن يقسم مسؤولٌ بالله، ثم ينكث وعده أمام الملايين؟ هل نُفرغ الكلمات من معانيها ونحولها إلى طقوس شكلية خاوية؟
هل باتت الأيمان تُؤدى كما تؤدى مشاهد المسرح، ينتهي العرض بعدها فيعود الممثل إلى حياته الحقيقية، حيث لا احترام لدستور، ولا اعتبار لقانون، ولا شعور بمصلحة شعب؟
حين يقف نائب منتخب ليصوت على قانون يذبح الفقراء، أو يمتنع عن كشف فساد رغم علمه به، أو يمد يده لتأييد ما يعلم أنه ضد مصلحة الناس، ألم يحنث بيمينه؟
وحين يغض وزير الطرف عن تجاوز، أو يقرر أن مصلحته الشخصية أهم من مصلحة شعب بأكمله، ألم يخن ما أقسم عليه؟ بل أين هم الآن من القسم؟ وهل يجرؤ أحدهم أن يعيده بصوت عالٍ وهو ينظر في عيون الناس؟
إن من يظن أن خيانة القسم هي جريمة قانونية فقط، يجهل عمق الجرح الذي تتركه في ضمير الأمة، فحتى لو خلا القانون من مادة تحاسب من يحنث، فإن هذا لا يعفيه أمام شعبه، ولا يغسله أمام التاريخ.
القسم ليس توقيعًا على ورقة، بل عهد أمام الله، ثم وعد أمام الوطن، وميثاق بين المسؤول والناس الذين أولوه ثقتهم.
وحين يُنكث هذا الميثاق، تنكسر الثقة، وتتحول مؤسسات الدولة إلى هياكل خاوية، يُدار فيها المشهد السياسي بلا روح ولا صدق.
وإن كانت النصوص قد تغافلت عن تجريم الحنث صراحة، فإن ضمير الأمة لا يرحم، كل مواطن يكتوي بنار الأسعار، كل شاب ضاع مستقبله في زحام الإهمال، كل مريض تُرك في طابور الانتظار بلا علاج، كل هذا ليس مجرد فشل إداري أو خلل سياسي، بل نتيجة مباشرة لحنث هؤلاء بقسمهم.
إنهم لم يحافظوا على النظام الجمهوري، بل حولوه إلى واجهة براقة تخفي ما هو أشبه بالإقطاع. لم يحترموا الدستور، بل جعلوه مطية لتشريع مصالحهم.
لم يرعوا مصالح الشعب، بل باعو الشعب على طاولات الصفقات، بل ارتهنوه بمصالح فردية وتحالفات قاتلة، لم يعد هناك حياء من الحنث، بل أصبح التنصل من القسم فضيلة في عرفهم، وكأن احترام الدستور رفاهية زائدة، ورعاية مصالح الشعب ترف سياسي لا يليق بعصر التحالفات القذرة.
وأكاد أرى البعض الآن يتحسس رأسه، خوفًا من أن يُشار إليه دون اسم، لا تخف، فالقارئ أذكى من أن يحتاج إلى أسماء .. هو يعرف من حنث اليمين الدستوري وصمت عن الفساد، هؤلاء لا يحتاجون إلى محاكمات علنية، فالتاريخ يحاكمهم كل يوم، والشارع يعرفهم جيدًا دون أن يُذكر لهم اسم.
يعرف من تبنّى خطابًا مزدوجًا واحدًا تحت القبة وآخر في الكواليس، يعرف من اكتفى بالجلوس على كرسيه ساكنًا، بينما كانت نار الحاجة تحرق صدور الناس في الشوارع.
المصيبة ليست فقط في الأفعال، بل في تبلد الضمائر، في برودة الوجوه التي لم تعد تخجل من تناقض القول والفعل، باتوا يعتبرون الكرسي أهم من القسم، هم لا يخفون خيانتهم للشعب، بل يمارسونها بوقاحة، محتمين بقوانين مطاطية، ومراكز نفوذ مترهلة، وصمت شعب خُدّر طويلًا بالأمل الكاذب.
لكننا هنا لنُعيد تعريف الجريمة .. الجريمة ليست فقط في السرقة أو الرشوة أو الكذب السياسي، بل في خيانة القسم .. في تمزيق الدستور باسم الشرعية.
في تحقير المعاناة الشعبية، وتجميل وجه الفشل. من يقبل بوزارة ليُجمّل صورة السقوط، أو بعضوية برلمان ليُزين ظلمًا صارخًا، هو خائن للقسم مهما زعم غير ذلك.
والمأساة أن القانون، رغم قدرته على قمع المواطن البسيط، يقف صامتًا أمام هذا النوع من الخيانة، لا مادة تجرّم الحنث، ولا آلية تعزل الفاسدين، ولا حسيب على من جعل القسم الدستوري جسرًا إلى الثراء والجبن.
لكن الشعب، هذا الكائن الصامت، لا ينسى .. ذاكرته طويلة، وحدسه حاد، وهو يعرف من استحق مكانه، ومن اشترى المقعد واحتقر القسم.
إن الخطر الأكبر ليس في حنث القسم، بل في تحوّله إلى عادة، وفي صمت الناس عن المطالبة بالمحاسبة، وفي التواطؤ العام على طمس معاني الكلمات.
فإذا كان القسم لا يُحترم، فلماذا نردده؟ وإذا كان الحنث لا يُحاسب، فلماذا نقسم أصلًا؟ وهل بقي للقسم معنى في دولة لا يُسأل فيها الوزير عما يفعل، ولا يُحاسب النائب على ما يهمل؟
القسم الدستوري ليس كلمة تُلقى في الهواء، هو تعهد، هو ميثاق، هو وعد بحجم الوطن. فإما أن يكون عنوانًا للصدق، أو يصبح شاهدًا على سقوط من أقسم، وسقوط دولة بكاملها في مستنقع الزيف.
إن القسم، إن لم يكن عقدًا مقدسًا، فليُلغَ، وإن بقي، فلنُعامل من يخونه كمن خان الوطن، لا بصفته مسؤولًا، بل باعتباره عدوًا داخليًا يرتدي بذلة رسمية ويبتسم وهو يغرس الخنجر في ظهر الأمة.
وإن سكتت عنه القوانين، فليصرخ فيه الضمير الجمعي، ولتسقط هيبته كما سقطت هيبة كل من انحنى أمام الكرسي، ووقف ظهره للوطن.
هؤلاء لا يستحقون الاحترام، بل الطرد من ذاكرة الدولة، نحن لا ننتظر اعترافًا منهم، بل نقولها من الآن: من خان قسمه، فقد كتب نهايته بيده، وعليه أن يعلم أن التاريخ لا يُجامل الخونة، وإن طال الصمت.
أنا لا أكتب لأجل التنفيس، ولا من باب التظاهر بالفضيلة، بل أكتب لأنني أشعر بالخوف الحقيقي من مستقبل نُساق إليه ونحن صامتون.
مستقبل تتسيد فيه قلةٌ تملك المال والنفوذ، وتحتكر الحق في القرار، وتتبادل المناصب فيما بينها، بينما يُطلب منا التصفيق، وإلا كنا خارجين عن الصف.
وأخشى أن يأتي يوم يصبح فيه القسم الدستوري نكتة، يُتداول بها بين الناس في المقاهي، وتُقال بسخرية لا بخشوع.
لا أطالب بمقاصل، لكنني أطالب بكلمة حق .. بمساءلة حقيقية .. برفض شعبي واعٍ لحالة الخضوع .. نحتاج إلى وقفة مجتمعية كبرى، لا تنتظر أسماءً أو تيارات، بل تبدأ من سؤال بسيط: من الذي حنث بقسمه؟
ومن الذي خان الأمانة؟ وليكن الحساب أدبيًا قبل أن يكون قانونيًا، فهناك خيانات لا تُغفر ولو سكتت عنها كل القوانين.
وها أنا أقولها بصراحة من خان قسمه الدستوري، خائن لشرف المنصب .. كاذب باسم الله .. من تآمر على إرادة الناس، ولو بورقة تصويت، أو بكلمة مجاملة، هو شريك في خراب الدولة.
ومساهم مباشر في انحدارها السياسي والاجتماعي، لا يستحق أن يُسمى نائبًا، ولا وزيرًا، ولا مسؤولًا. بل مجرد شخص مر من هنا .. وترك وراءه خرابًا لا يُنسى.