وجها لوجه، وقفت جنوب أفريقيا تتحدى الكيان الصهيوني المحتل، أمام محكمة العدل الدولية، والعالم كله، يتابع، يشاهد؛ بل ويشهد، قضية القرن !!؛. وانتصرت “بريتوريا” للقضية الفلسطينية، ووضعت إسرائيل داخل قفص مجرمي الإبادة الجماعية؛ عقابا على ما ترتكب من أبشع جرائم التطهير العرقي، والتدمير المنهجي الكلي، والجزئي ضد الشعب الفلسطيني؛ منذ النكبة، وحتى الآن!؛ والتي يعاقب عليها القانون الجنائي الدولي، بموجب إتفاقية الأمم المتحدة ( عام 1948م.). وعلى الرغم من صدور قرار محكمة العدل الدولية، بكامل الهيئة القضائية، السبعة عشر؛ إلا اثنين– الإسرائيلي، والأوغندية -، والموافقة على كافة مطالب التدابير المؤقتة، وفقا لنص الاتفاقية (المادة 41 )؛ إلا أن عدم الدعوة الصريحة لوقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، قد أسقط عمق اليأس في نفوس المقهورين؛ بينما تنفست الولايات المتحدة الأمريكية الصعداء، بعد فترة حبس الأنفاس؛ لأنه أعفاها من حسابات ” الفيتو”. وأما ” بريتوريا “، فقد خرجت، بعد معركة قانونية شرسة، راضية، مرضية؛ لأنها رأت في القرار، أوامر مباشرة، وإجراءات مؤقتة، وحكم ملزم؛ وحتما، فإن تنفيذه يحمل بين طياته، وقفا لإطلاق النار؛ ولو بصيغة غير مباشرة .
وكفى إنجازا، وانتصارا قانونيا لجنوب أفريقيا، أن الفريق القانوني، بقيادة المحامي جون دوغار -أحد أبرز خبراء القانون الدولي الجنوب أفريقي، والمقرر الخاص للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، والقاضي بمحكمة العدل الدولية سابقا-، قد نجح في إقناع المحكمة بأنها صاحبة الاختصاص للنظر في الدعوى – ملف تضمن 84 ورقة-، وفقا لنص ( المادة التاسعة ) من الاتفاقية، وإحضار من يعد أكثر متهم بارتكاب جرائم إبادة جماعية في العصر الحديث، والذي ظل غائبا عن المثول أمام المحاكم الدولية، لعقود من الزمن. وبهذا الحكم فقد ثبت بأنه؛ ” ألا دولة فوق القانون “، وذلك على حد وصف رياض المالكي وزير خارجية فلسطين .
وبدأنا العد التنازلي، ومضى ثلاثة أيام، من الشهر، المهلة الزمنية، التي منحتها محكمة العدل الدولية لإسرائيل؛ حتى تعد تقريرها، بشأن ما اتخذته من خطوات لتنفيذ التدابير المؤقتة، التي صدر بشأنها القرار، وتقديمه للمحكمة، ونسخة منه إلى جنوب أفريقيا؛ وعليها أن تثبت اتخاذ كل ما ينبغي فعله، للتأكد من عدم ارتكاب الجيش الإسرائيلي لأي انتهاكات، وأن تفي بضمانات توفير الخدمات الأساسية، والاحتياجات الإنسانية للفلسطينيين في قطاع غزة، وبشكل فوري، وكل ما يلزم من إجراءات لمنع التحريض المباشر على ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية؛ ولاسيما التصريحات العنصرية الصادرة عن المسؤولين السياسيين، والعسكريين الإسرائيليين، بما في ذلك رئيس الدولة، ووزير الدفاع، والتحذير من عدم طمس أي أدلة إدانة، وسرعة توقيع العقوبات على مرتكبي الجرائم، وفقا لنص المادة الثانية من الاتفاقية، التي صادقت عليها تل أبيب ( عام 1948م.) .
ومن عجائب القدر، أن تقف إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، التي كانت قد تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، لمحاكمة النازيين، وأعوانهم على الهولوكوست، أو محرقة اليهود، في جريمة” الإبادة الجماعية”، وهو المصطلح الذي أبتدعه المحامي اليهودي رافائيل ليمكين (عام 1944م.)، بقصد توصيف السياسات النازية لـ”القتل المنظم”، الذي طال اليهود في أوروبا حينها. وتسقي جنوب أفريقيا، نفس الكأس للكيان الصهيوني المحتل، وتضعه في قفص الاتهام ، ولن يفلت من العقوبة، ما لم يثبت الوفاء بتنفيذ التدابير المطلوبة منه، قبل نهاية المهلة الزمنية الممنوحة له؛ خاصة بعد فشل فريقه الدفاعي، كما لن تجدي أي مراوغات، أو ألاعيب صهيونية، ولن يشفع له محاولات واشنطن التشكيك في أدلة ” بريتوريا “، ونفي واشنطن العبثي، عدم تعرض الفلسطينيين لحرب إبادة، فكل هذا لن يجدي؛ إذ قضي الأمر، والحكم أصبح نهائيا، لا يقبل الطعن؛ و ملزما .
وعاشت إسرائيل تستعرض عضلات القوة، وتمارس الغطرسة، وتكرس ثقافة أنها فوق القانون، وأنها قادرة على فعل كل ما تشاء، وتفلت من العقاب، حتى أنها استباحت دماء الفلسطينيين، ولسنوات كثيرة، لا تردعها بيانات الشجب، والاستنكار، واستهانت بمنابر الخطب الرنانة، واجتماعات إبراء الذمة. وفجأة استيقظت؛ لتجد نفسها في قبضة جنوب أفريقيا، التي تحاكمها على جريمة الإبادة الجماعية، وتحصل من محكمة العدل الدولية على قرار قضائي دولي تاريخي، يدين لأول مرة الكيان الإسرائيلي المحتل، ويطارده بالعقوبة، بل وكل الدول التي تدعمه، بتهمة عقوبة الشريك في الجريمة، وأنه متى ثبتت جريمة الإبادة الجماعية، يحق للمتضررين، وعائلات الضحايا، أخذ هذا الحكم، والاستناد إليه لملاحقة تل أبيب بتعويضات .
صَاحِ؛ أخشى أن أتركك حائرا، تبحث عن السر، الذي يدفع جنوب أفريقيا، أن تقود معركة قانونية على الساحة الدولية، ضد الاحتلال الإسرائيلي، دفاعا عن الفلسطينيين، دون أن تبالي بالصهيونية العالمية، ولا الإمبرالية الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، والثمن الذي قد تدفعه إقتصاديا، وهي ليس عليها حرج؛ فلا هي لها حدود مشتركة، ولا هي شقيقة، ولا حتى يجمعها لغة واحدة، وميثاق…؛ ولكنها أثبتت لنا قيمة بعد آخر، مات داخل الكثيرين؛ هو” الإنسانية “!. وعقب النطق بالقرار التاريخي للمحكمة، خرج علينا الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا؛ ليلقي كلمة، على الهواء مباشر، يكشف فيها عن الضغوط التي تمت ممارستها ضدهم، من أجل أن تثنيهم عن طريق الدعوى القضائية؛ إلا أنهم، لم يلتفتوا لها، وواصلوا المشوار؛ وانتصروا للعدالة الدولية!. وأكد أنهم مستمرون، حتى يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه؛ لأنهم جربوا الاضطهاد والتمييز العنصري، والظلم، وهم على العهد مع ا الأب الروحي ، وزعيمهم نيلسون مانديلا، وسوف يظلوا مخلصين لمبدأه: ” أبداً، أبداً، أبداً، لن تشهد هذه الأرض الجميلة مرة أخرى اضطهاد البعض للآخرين” .
صحفي وكاتب
moiharby1968@yahoo.com