دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب :زكاة الفطر طُهْرَةً لِلصَّائِمِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ

“خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها” [التوبة: 103].
ليس هناك دليل أجلى على صدق الإيمان من الصدقة، لذا اشتق اسمها من الصدق، وكانت برهاناً من أبين البراهين على صدق إيمان صاحبها، قال صلى الله عليه وسلم: “… والصدقة برهان…”.

ومن الصدقات التي أوجبها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر، “عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، والحر والمملوك” ولا خلاف بين علماء الأمة سلفاً وخلفاً على وجوبها في رمضان على كل مسلم، صغيراً كان أو كبيرا، ذكراً أو أنثى، غنياً أو فقيراً، يخرجها المسلم عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ مِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ مِنْ أَوْلَادِهِ وَآبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وزوجاته.

وأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزم صحابته رضوان الله عليهم بإخراجها، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: ” كُنَّا نُخْرِجُ إِذَا كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ ” [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].

وعندما فرضها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فرضها من التمر والشعير، وكان لا يخرجها إلا من التمر ربما لأنه كان أفضل وأنفع للفقير، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: حِينَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وَكَانَ لَا يُخْرَجُ إِلَّا التَّمْرُ ” هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ [المستدرك].

وهذه الصدقة لا ريب أنّ أجرها عظيم وثوابها جزيل، فهي طهارة لصوم الصائم، وسعة على الفقراء، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ” [سنن ابن ماجة].

وإنّ الأمة ابتليت في عصورها المتأخرة بكثرة الجدل وقلّة العمل، وأُغرم بعض منها بتضييق واسعها، وبتعسير يسيرها، والمجادلة في أمور لا تلقى الأمة منها إلا عنتاً، ولا تجني منها إلا فُرقة، فنرى البعض يعملون على إثارة فتاوى عفى عليها الزمن وردّ الفقهاء على مرّ العصور عليها بياناً وتوضيحاً بل وتفنيداً، وعلى الرغم من ذلك، نجدهم كلما أهلّ شهر رمضان أثاروها بين الناس لا سيما كلما أوشك الشهر على الانتهاء وأخذ الناس يستعدون لإخراج صدقاتهم.

لذا سأحاول جاهداً أن أتناول هذا الموضوع بشيء من الإيضاح لعل الله تعالى أن يهدينا ويهدي بنا، حتى نكون لائقين بقول نبينا صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثتم ميسرين”، وسأطرح بعضاً من الأسئلةالشائعة وأجيب عنها.

أولاً:
س: هل يجوز إخراج صدقة الفطر من أول ليلة من رمضان؟.

ج: نعم يجوز إخراج صدقة الفطر من أول ليلة من شهر رمضان المبارك، بل إنّ أبا حنيفة أجاز تقديمها على شهر رمضان.

والخلاف الذي دار حول تلك المسألة كان سببه الخلط بين وقت الجواز ووقت الوجوب، فوقت الجواز يبدأ من أول ليلة من ليالي شهر رمضان، أما وقت الوجوب فيبدأ من غروب شمس آخر يوم من أيام رمضان ويستمر ذلك حتى صلاة العيد، فأراد بعض من قصر فهمهم عن إدراك ذلك أن يحملوا الناس جميعاً على وقت الوجوب ونسوا أو تناسوا وقت الجواز.

ثانياً:
س: هل يجوز إخراج صدقة الفطر بعد فروغ الناس من صلاة العيد أم لا ؟.

ج: نعم يجوز إخراجها بعد صلاة العيد، وبهذا قال الإمام أحمد بن حنبل والنخعي وابن سيرين رضي الله عنهم. وإن كان الأفضل إخراجها قبل صلاة العيد.

ثالثاً:
س: هل يجوز إعطاؤها للفقراء من غير المسلمين؟.
ج: نعم يجوز إعطاؤها للفقراء من غير المسلمين لا سيما من أهل الكتاب، ولمخرجها الأجر كاملاً بإذن الله، ذكر أبو عبيدة في كتابه الأموال: “عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْطُونَ الرُّهْبَانَ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ”. وقد مدح ربنا في كتابه من يطعمون الطعام المساكين واليتامي والأسرى، فقال تعالى: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً” [الإنسان: 8] ، ولم يكن الأسرى وقت نزول الآية إلا من المشركين.

رابعاً:س: هل يجوز إخراج قيمة صدقة الفطر نقوداً (أي مالاً) أم أنه لا بد وأن تخرج حبوباً؟.

ج: نعم يجوز إخراج قيمة صدقة الفطر مالاً، بل إني أقول إنّ إخراجها مالاً أعظم أجراً وأكثر ثواباً لا سيما في هذه الأيام، لعدة اعتبارات تتفق تماماً مع جوهر الدين ومقاصده، منها ما يلي:

١_ إن إخراجها مالاً يتفق مع جوهر الدين حيث إنه لا حرج فيه، قال ربنا جل وعلا: “…وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” [الحج: 78]، كما أنه يسر، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: “إن الدين يسر”، كما أنه يتناغم مع بعثتنا كميسرين لا معسرين، قال صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين”، ولا شكّ أن إخراج صدقة الفطر مالاً أيسر على الغني، وأبعد عن الحرج، كما أنها أجدى وأنفع للفقير، ومما لا شك فيه أنّ مراد ربنا منا اليسر لا العسر، قال تعالى: “يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” [البقرة: 185].

٢_ إنّ إخراجها مالاً يتفق مع الغاية التي كانت من أجلها الصدقة، وهي التوسعة على الفقراء وإغناء المعاويذ لا سيما في يوم العيد، قال صلى الله عليه وسلم: ” اغنوهم عن السؤال فى هذا اليوم” والإغناء لا يكون إلا بالمال، فهب أحداً في بيته قمحاً أو أرزاً أو غير ذلك من أنواع الحبوب التي حصروا الصدقة فيها وليس معه مال ليطحن به القمح أو ليشتري سمناً أو زيتاً ليطهوا الأرز هل يكون غنياً عن السؤال.

أحبتي الكرام إنّ رسولنا الكريم عندما ذكر الشعير أو التمر أو القمح إنما ذكر ذلك لأن هذه الحبوب في حينها كانت تستعمل كالمال إذ كان معظم بيعهم وشرائهم بمقايضة السلع لقلّة النقود لا سيما أنه لم يكن للعرب في حينها نقود تضرب في بلادهم، وكان الدينار والدرهم إنما يضربان في بلاد الروم أو الفرس، وإلى عهد قريب كنا نتعامل في بلادنا بصعيد مصر بنظام المقايضة بيعاً وشراءً كالشراء بالغلال أو بالبيض وخلافهما. فلما كان في عهده صلى الله عليه وسلم إخراج الحبوب أيسر على الغني وأنفع للفقير قال به.

فأيهما أنفع للفقير في زماننا هذا أن ندفع إليه نقوداً يشتري بها ما يلزمه من حاجته وحاجة عياله ويغني بها نفسه، أم ندفع إليه غلالاً يحار في مكان تخزينها، بل في معظم البيئات يجهل كيفية الاستفادة منها.

٣_ إن إخراجها نقوداً ينسجم مع قيم ديننا وأخلاقه، إذ إن مبنى ديننا على إخفاء الصدقة، وستر الفقير، ومن ثمَّ فإن إخراجها نقوداً أدنى إلى إخفائها وبعدها عن المن والرياء، وكذا هي أستر للفقير، أما الحبوب فالكل يعرف حاملها ويرى المحمولة إليه، وفي هذا ما لا يخفى من المساس بكرامة الفقير وإشعاره بالحياء أمام الناس والحرج.

بقي علي أن أذكر وجهة من يرى أنها لا تخرج إلا حبوباً.

إن سبب ذهاب من ذهب إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على تلك الأصناف، وطالما أنه نصّ فلا قياس مع النص، حسبما تقول القاعدة الأصولية، لكن ينبغي أن يفهم هؤلاء أنه كما لا قياس مع النص، إلا أنّ هناك قياس على النص، أي نأخذ النص ونقيس مستضيئين به عليه، بل لا يوجد قياس إلا على نص، فعلى كل فقيه أن ينظر إلى النص وعلّته وحكمه ومناسبته، فإذا وجد علّة النص موجودة في شيء آخر أعطى ذلك الشيء نفس الحكم الذي حكم به النص، فمثلاً عندما نزل القرآن الكريم بتحريم الخمر لم تكن الخمر حينذاك تُتخذ إلا من التمر ، لكن لما نظر الفقهاء في العلة التي من أجلها كان تحريم الخمر وهي تغييب العقل، سحبوا الحكم على كل مسكر.

وهكذا صدقة الفطر فإنّ علتها إغناء الفقير وسد فقره، وهذا إنما يكون بالنقود أكثر ما يكون منه بالحبوب، والواقع يشهد بذلك، واسألوا الفقراء أيهم أجدى لهم وأنفع، لقد رأينا من يتمسكون بضرورة إخراج صدقة الفطر حبوباً ألجأوا الفقراء إلى أخذها حبوباً ثم الذهاب بها إلى التجار ليبيعوها لهم بثمن بخس، فكان الخاسر حتماً في هذا الأمر الفقير.

لذا لما نظر السادة الأحناف إلى العلة وجدوها إغناء الفقراء، وهي علة منصوص عليها في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “اغنوهم عن السؤال فى هذا اليوم”، وهى أقوى أنواع العلة ، فقالوا بجواز إخراج القيمة.

وقبل أن أختم أقول: يجوز إخراج قيمة صدقة الفطر ولا حرج في ذلك بإذن الله تعالى، ولكن نحترم كل وجهات النظر ونؤمن أن كل من قال قولاً في هذه المسألة إنما يبغي بقوله وجه الله تعالى وما قاله إلا غيرة على دينه، فجزا الله الجميع خيراً.

زر الذهاب إلى الأعلى