آراء

د. حسنى ابوحبيب يكتب: سر دوام العز

قال تعالى “وَلا تَهِنُوا” [آل عمران: 139].هذا نهيُ القوي المتين لعباده المؤمنين عن قبول الهوان، أو السكوت على الخذلان، فهذا شرطٌ ليدوم لهم العز ، وليستمر معهم النصر، فهم أعزاء ما أطاعوا، ومنصورون ما أذعنوا، ومن ثَمّ فإنهم إن ذُلّوا وهانوا فاعلم أنهم تركوا ما إليه سبحانه دعى، وارتكبوا ما عنه تعالى نهى، وكرهوا الهدى واستحبوا العمى، وهذه سنة الله تعالى في الأولين والآخرين، السابقين منهم واللاحقين، وهي ماضية في خلقه إلى يوم الدين، ومهما دار الزمان، وتعاقب الليل والنهار “فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً” [فاطر: 43].

إن الله تعالى قصّ علينا من قصص الأولين الكثير والكثير، ومن بين ما قصّ علينا قصة عاد وثمود، فأمّا الأولى فاستكبرت وبغت وغرّتها قوتها فما كان من الحكم العدل إلا أن أخزاهم وجعلهم عبرة لكلّ متكبر، “فَأَمّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى” (فصلت: 15، 16].

وأما الثانية فقد استحبت العمى على الهدى، فلمّا فعلت ذلك أخذها عذاب الهون، فأهانها الله وأخزاها على مرائي العالمين ومسامعهم، قال تعالى: “وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ” [فصلت: 17]

والمتأمل في ذلك القول الكريم الذي صدّرنا به مقالنا: “ولا تهنوا” يجد أن الله تعالى كرره على مسامع عباده المؤمنين مرتين ناهياً إيّاهم عن قبول الهوان والسكوت عليه، أو الصبر على الخذلان والرضى به، وفي المرتين يأتي النهي والمسلمون يعيشون أيام محنٍ وشدائد، فالنهي الأول يأتي والمسلمون يعيشون محنة أحد وشدائدها، تلك المحنة التي فقدوا فيها سبعين شهيداً اي نحواً من عشر جيشهم حينذاك الذي كان عدده سبعمائة، كان على رأسهم سيد الشهداء وأسد الله وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا حمزة، وكاد الرسول فيها أن يقتل ومع ذلك ينزل النهي من فوق سبع سماوات للمسلمين عن قبول الهوان أو الاستسلام للأحزان، يأتي ومعه البشرى لهم بأنهم الأعلون ما التزموا، الغالبون ما أطاعوا، يأتي كلّ ذلك مقترناً بتسليتهم من قبل ربّهم بأن القرح كما مسّهم فقد مسّ عدوهم، وهذا شأن الأيام في تداولها، وأن هذا كله تمحيص لهم كما أنه محق لعدوهم، “وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَالله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ” [آل عمران: 139 : 141].

قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم لا يعلونّ علينا، اللهم لا قوّة لنا إلا بك، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، وثاب نفر من الرماة، فصعدوا الجبل، ورموا خيل المشركين حتى ردوها.

أما النهي الثاني فيأتي أيضاً والمسلمون يعيشون شدة ومحنة غزوة حمراء الأسد عقب غزوة أحد مباشرة، حيث علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن المشركين جاءوا بجيش قوامه حوالي ثلاثة آلاف لقتاله، فأمر الرسول الكريم أصحابه بالخروج لملاقاتهم، كما أمر بأن لا يخرج معه إلا من حضر غزوة أحد، فخرج معه الستمائة والثلاثون على الرغم من جراحاتهم، وتوجه بهم إلى حمراء الأسد وعسكر بها ثلاثة أيام، وفيها نزل قوله تعالى: “وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا” [النساء: 104]. ناهياً إياهم عن قبول الهوان أو السكوت عليه، وإن كانوا يألمون فعدوهم كذلك، غير أنهم يرجون من الله ما لا يرجوه عدوهم.

عندما وعى المسلمون ذلك عزّوا وسادوا، فكان عزّهم وسؤددهم ثمرة لوعيهم نهي ربهم واجتنابهم إياه، لكن بعد أن غيّروا وبدّلوا ذُلّوا وهانوا، فكان ذلّهم وهوانهم ثمرة لتبديلهم وجُرأتهم على ما نُهوا عنه، وما ظنك بأمّة تُسبى نساؤها، ويُذبح أطفالها، ويُقتل مجاهدوها، ويُباد أفرادها، وتُغتال رموزها، وهي مع كل ذلك في سكرتها، وحفلاتها تقام بلا انقطاع في مشرقها ومغربها، وكأنها باتت تخشى من عدوها حتى إظهار حزنها على شهدائها وخراب دورها.

هذا لعمري لهو الهوان بعينه والذلّ بذاته، وإلا فما يكون الهوان وما هو الذل، عندما نرى إخواناً لنا يُقذفون من بني صهيون وهم في صلاتهم، ونرى المساجد تُهدّم، والمدارس تٌدك، والبيوت تُنسف، والأرض المباركة تُسرق، ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم يُدنس، والأقصى الصلاة فيه تُمنع، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإليه وحده المشتكى، وعليه وحده التكلان.

ما أريد قوله من مقالي هذا علينا جميعاً ألّا نهن ولا ندعو اليأس يتسرب إلى قلوبنا، ولا نحزن ولا نجعل الحزن يفت من عضدنا، فطريق النصر واضحةٌ ملامحه، مرسومة معالمه، فطريقه التوبة لرب العالمين اولاً، والالتزام بأوامره والابتعاد عن نواهيه ثانياً، والعودة لقيمنا وأخلاقنا ومٌثُلنا ثالثاً، ثم الأخذ بالأسباب المؤدية إلى النصر من وحدة واعتصام وكدٍّ وعمل وإعداد ما استطعنا من قوة رابعاً.

وأختم بما قاله أبو البقاء الرندي في نونيته التي يرثي فيها أول أندلس خسرها المسلمون والتي كانت بداية لأندلسيات كثيرة خسرناها وما زلنها نخسرها بارتكابنا ما عنه نُهينا، وتركنا لما به أمرنا، والتي أختار منها ما يلي:

يُمَزِّقُ الدَهرُ حَتماً كُلَّ سابِغَةٍ * إِذا نَبَت مَشرَفِيّات وَخرصانُ
فَجائِعُ الدُهرِ أَنواعٌ مُنَوَّعَةٌ * وَلِلزَمانِ مَسرّاتٌ وَأَحزانُ
وَلِلحَوادِثِ سلوانٌ يُهوّنُها * وَما لِما حَلَّ بِالإِسلامِ سلوانُ
تَبكِي الحَنيفِيَّةُ البَيضَاءُ مِن أَسَفٍ * كَما بَكى لِفِراقِ الإِلفِ هَيمَانُ
عَلى دِيارٍ منَ الإِسلامِ خالِيَةٍ * قَد أَقفَرَت وَلَها بالكُفرِ عُمرانُ
حَيثُ المَساجِدُ قَد صارَت كَنائِس ما * فيهِنَّ إِلّا نَواقِيسٌ وصلبانُ
حَتّى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ جامِدَة * حَتّى المَنابِرُ تَبكي وَهيَ عيدَانُ
يا غافِلاً وَلَهُ في الدهرِ مَوعِظَةٌ * إِن كُنتَ في سنَةٍ فالدهرُ يَقظانُ
كَم يَستَغيثُ بِنا المُستَضعَفُونَ وَهُم * قَتلى وَأَسرى فَما يَهتَزَّ إِنسانُ
ماذا التَقاطعُ في الإِسلامِ بَينَكُمُ * وَأَنتُم يا عِبَادَ اللَهِ إِخوَانُ
أَلا نُفوسٌ أَبيّاتٌ لَها هِمَمٌ * أَما عَلى الخَيرِ أَنصارٌ وَأَعوانُ
يا مَن لِذلَّةِ قَوم بَعدَ عِزّتهِم * أَحالَ حالَهُم كفرٌ وَطُغيانُ
لِمثلِ هَذا يذوبُ القَلبُ مِن كَمَدٍ * إِن كانَ في القَلبِ إِسلامٌ وَإِيمانُ.

حمى الله أوطاننا من كل مكروه وسوء، وردّنا أجمعين إليه ردّاً جميلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى