آراء

الدكتور حسنى ابوحبيب يكتب : آداب العبودية

قال تعالى فى محكم التنزيل”وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ” [هود: 123].

إن هذا القول الكريم ختم به ربنا جل وعزّ سورة هي من أجلّ سور القرآن الكريم، تلك السورة التي شيَّبت رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، “عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ” (سنن الترمذي)، وكيف لا يشيب منها وهو المأمور فيها بقوله تعالى: “فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ” [هود: 112].

وما أدراك بسورة اشتملت على قصة سيدنا نوح، ثم ثنّت بقصة سيدنا هود، وثلّثت بقصة سيدنا صالح، ثم تناولت قصة سيدنا إبراهيم وقصة سيدنا لوط، ثم ذكرت قصة سيدنا شعيب، وأخيراً ختمت بقصة سيدنا موسى عليهم جميعأ وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

ذكرت السورة الكريمة معاناة هؤلاء الرسل جميعاً من تكذيب قومهم لهم واستهزائهم بهم، وتعدّيهم عليهم، كما ذكرت صبر أولئك الرسل على كل هذا، وأن العاقبة كانت لهم عليهم بصبرهم وإيمانهم بربهم، لذا جاء الأمر فيها لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر مكرراً مرتين، أولهما: جاء في قوله تعالى: “فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ” [هود: 49]، وثانيهما: في قوله سبحانه: “وَاصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ” [هود: 115].

ثم تُختم السورة الكريمة ببيان أن من أهم مقاصد ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم، تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه، وتسليته عما أصابه، وتبشيره بأن العاقبة له ولأتباعه.
قال- تعالى: “وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِله غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” [هود: 120 : 123.

ثم تأتي آخر آية فيها لتؤكد على أن مرجع كل أمر لا بد وأن يكون إلى من بيده الأمر، والأمر كله إلى الله تعالى يرجع كما أنه منه بدأ، فهو الآمر الأوحد وما سواه فمأمور، وطالما كان الأمر كذلك فيجب علينا جميعاً أن نكون له عباداً كما يحب منا، حتى يكون لنا رباً كما نحب منه، وأول آداب العبودية ألا تسأل غيره أو ترجو سواه، وأن يخرج العبد عن كل وصف مناقض لعبوديته، فالعبد لا يتكبر، ولا يتجبر، كما أنه لا بد وأن يكون دائم الشعور بفقره لربه، وبعجزه أمام حوله تعالى وقوته، ووقوفه عند حدوده.

بهذه العبودية يصبح العبد عبدا لربه وسيداً في كونه، فمن عبد الله حقاً وأطاعه حقيقة سخّر الله له كونه بما فيه ومن فيه، فربنا لمّا خلقنا أراد لنا أن نكون مالكين لا مملوكين، وسادة لا عبيد، لذا أسجد لنا ملائكته وسخر لنا كونه، ولن نكون كذلك إلا بحسن عبادتنا له وجميل توكلنا عليه، “عبدي أطعني يطعك كل شيء”.

افتقر أحد تجار الكوفة الأمناء، فذهب إلى بغداد، فدخلها ليلاً فآواه المبيت إلى مسجد مهجور بأطرافها، فقام ليله عابداً لربه يدعوه ويتضرع إليه، فجاء الإمامَ الجنيد هاتفٌ في منامه يقول له: عبدي قم ففرج كربة عبدي، قال: وأين أجده؟ قال اركب دابتك حيثما تقف فهو ثَمّ، فقام فتوضأ وركب دابته فأخذته إلى ذلك المسجد المهجور، فلما دخله وجد ذلك الرجل يدعو ربه، فأعطاه الجنيد مائة دينار، وقال له هذه لك إن لم تف بحاجتك فاقصدني فأنا الجنيد البغدادي أسكن في مكان كذا، فلم يلتفت إليه الرجل، فكرر عليه، فقال له الرجل أمجنون أنت يا جنيد أأقصدك أنت وأنت الفقير، وأترك من أيقظك في جوف الليل وساقك إلي وهو الغني.

نعم إن من عبد الله حقاً وأطاعه صدقاً وتوجّه إليه مخلصاً رزقه الله يقيناً فيه وحسن توكل عليه، بحيث لا يرى معه سواه، ولا يطلب من أحد غيره، قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه يوماً: نحن لا نحب إلا الله. فقال له رجل: يأبي جدك صلى الله عليه وسلم غير ذلك يا سيدي، إذ يقول: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، فأجابه سيدنا وشيخنا رحمه الله بقوله: ونحن لا نرى محسناً إلا الله.

ورحم الله سيدي أحمد بن عطاء الله إذ يقول في مناجاة الحق تعالى على ألسنة الهواتف: “إنا أجللنا قدرك أيها العبد أن نشغلك بأمر نفسك فلا تضعن قدرك يا من رفعناه، ولا تذلّنّ بحوالتك على غيري يا من أعززناه، ويحك أنت أجلّ عندنا من أن تنشغل بغيرنا، لحضرتي خلقتك، وإليها طلبتك، وبجواذب عنايتي إليها جذبتك، فإن انشغلت بنفسك حجبتك، وإن اتبعت هواها طردتك، وإن خرجت منها قرّبتك، وإن توددت إلي بإعراضك عما سواي أحببتك”.

نعم ” فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ”، يا من تريد عزّاً فهو العزيز وحده، ويا من تريد ملكاً فلا مالك سواه، ويا من تريد غنىً ومالاً فهو الغني حقاً، سبحانه هو وحده الرافع الخافض، كما أنه وحده المعطي المانع، اختص نفسه بالإعزاز والإذلال، فهو المعز المذل، بيده وحده الخير وهو على كل شيء قدير.

“فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ” اقنع به وارضى بقسمه واسكن إليه ولا تحب غيره، تكن أغنى خلقه به وأقربهم منه وأحبهم إليه وأكرمهم عليه، فتصير بهذا كمن ملك الدنيا وساد الكون، ورحم الله إمامنا الشافعي رضي الله عنه إذ يقول:

رأيت القناعة رأس الغنى * فصرت بأذيالها متمسك
فألبسني عزّها حلّة * يمر الزمان ولا تنهتك
فلا ذا يراني ببابه * ولا ذا يراني به منهمك
فصرت غنيّاً بلا درهم * أمر على الناس شبه الملك.

فأقبل أيها العبد إلى ربك بملاطفات إحسانه، وإياك أن تتردد فتُقاد إليه بسلاسل امتحانه، واعلم أن غناك لا يكون إلا بربك، وعزّك لن يتحقق إلا بمولاك، فمهما طلبت العزّ في غير طاعته أذلك، ومهما طلبت الغنى من غير حضرته أفقرك، “فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ” ، واعلم أنه ليس بغافل عنك، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ”.

نسأل الله تعالى أن يعزّنا بصدق عبوديتنا له، وأن يغنينا بحسن توكلنا عليه، وألا يشغلنا عنه بشيء، وأن يغنينا به عن كل شيء.

زر الذهاب إلى الأعلى