دين و دنيا

د. حسني ابوحبيب يكتب: جواز المرور على الصراط

قال تعالى “وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوه” [الفتح: 9].
كلّما أهلَّ شهر ربيع الأول وإن شئت قلت: شهر ربيع الأنور، وإن شئت قلت: شهر ربيع الأزهر، لما فيه من تجدد الأنوار، وتفتح الأزهار، حُقَّ لنا أن نحتفي بمن كمُلت به الأنوار وتفتَّحت له الأزهار، وخُلِق لأجله الليل والنهار، ذلك النبيّ العربي صلى الله عليه وسلم الذي أكرمه ربُّه بأن أعدَّ لمحبيه الجنة ولشانئيه النار، ولنكن على يقين لا شكَّ فيه أنَّ احتفالنا به إظهاراً لمحبتنا فيه وتأكيداً على تبعيتنا له وتجديداً لعهدنا معه، من آكد السنن، بل من أوجب الواجبات، فما أكرم الله تعالى العالمين به صلى الله عليه وسلم إلا ليعزِّروه ويوقِّروه ويجلِّوه ويحبُّوه، وهذا لا يكون إلا إذا فرحوا به وبمقدمه، وإلا رُدَّت عليهم أعمالهم وخاب سعيهم.

وقد كان الصحابة يفرحون ويُسرون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكلِّ نعمة تتجدَّد له؛ روى البخاري في صحيحه عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، “أَنَّ المُسْلِمِينَ بَيْنَما هُمْ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي لَهُمْ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صُفُوفِ الصَّلاَةِ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ، وَهَمَّ المُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ، فَرَحًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ: أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ ثُمَّ دَخَلَ الحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ”( )،

وقد ذكر الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي في كتابه سبل الهدى والرشاد أنَّ الشيخ أبا موسى الزّرهونيّ كان يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فذكرت له ما يقوله الفقهاء في عمل الولائم في المولد فقال صلى الله عليه وسلم: “من فرح بنا فرحنا به”.

وقد بشَّرنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بأنَّه من عاش محبَّاً له، متبعاً لسنته، ملتزماً بشريعته، قائماً على ملَّته، فإنّه يكون يوم القيامة معه، ولقد بلغ فرح صحابته رضي الله عنهم بهذه البشرى مبلغاً لم يبلغه فرح لهم قبله ولا بعده، وما ذاك إلا لحبِّهم الصادق إيَّاه صلى الله عليه وسلم، “عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا. قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِم”.

نعم، “وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوه” نزل ذلك القول الكريم على قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو عائد من صلح الحديبية بعد أن حال مشركو قريش بينه وبين أداء عمرته التي كان قد عزم عليها، وبعد أن جرى من بعض أصحابه من الاعتراض على بعض بنود ذلك الصلح الذي كان فتحاً لهم، بيد أنَّهم لم يروا فيه ذلك؛ فاعترضوا عليه وأبطأوا في طاعة أمره لهم، فلم يحلقوا رءوسهم إلا بعد أن حلق صلى الله عليه وسلم، فنزل ذلك التوجيه الكريم والبيان الواضح مبيِّناً أنَّ من شرط الإيمان بالله ورسوله تعظيم وتفخيم وتوقير وإجلال ذلك النبيِّ الذي جاء لِيُعلِّم العالمين كيف يكون الإيمان، وهل الإيمان إلا طاعة لله ومحبَّة لرسوله الذي جاء بالإيمان ؟!!!، وإذا كانت المحبَّة موطنها القلوب لكن لا بدَّ وأن تشهد لها الجوارح، كذا الإيمان محلّه القلب لكن لا بدَّ من شهادة الجوارح له؛ “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ”.

واعلم يا أُخيَّ أن محبَّتك لرسولك صلى الله عليه وسلم شرط إيمانك، وعنوان إسلامك، وجواز مرورك على صراطك، ومفتاح جنَّتك، ولا بدَّ لها أن تنعكس إيجاباً على جوارحك وعملك، وإنَّ من واجبات تلك المحبَّة أن تتجدد كلَّما أهل هلال شهر ظهورها للعالمين، شكراً لله تعالى على عظيم منَّته وجزيل عطيَّته وعنوان رحمته، من هنا ينبغي لأهلها أن يجتمعوا فرحين على شكر تلك النعمة المسداة مصلِّين ومسلِّمين ومادحين من كانت على يده هدايتهم وبه نجاتهم، فبهذا أمر الله عباده في قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]. وهل هناك فضل يستدعي الفرح أعظم من فضل الله تعالى بمنَّته بالسراج المنير وبنعمته المسداة ؟!!، وهل هناك رحمة تستوجب السرور أكبر من النور المنير ورحمته المهداة ؟ !!؛ ولطالما أعلن ذلك صلوات ربي وسلامه عليه؛ فقد كَانَ يقول: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ”.

إنَّ الاحتفال والاحتفاء والفرح بنعم الله تعالى وبرحمته باب عظيم من أبواب القرب، وسبب أصيل من أسباب الوصل، على هذا درج النبيون والصالحون من بني آدم قديماً وحديثاً، ومنه كان الاحتفال والفرح بمولد الرحمة المهداة والنعمة المسداة صلى الله عليه وسلم الذي التزم الصالحون من هذه الأمة مهتدين في ذلك بسنة الله تعالى في خلقه وسنن أنبيائه ورسله، وإليك البيان على أنَّ احتفالنا بنبيِّنا ليس بدعاً من القول يا من تريده:

• إن الله تعالى لمَّا خلق آدم عظَّم اليوم الذي خلقه فيه وأمر بتعظيمه، وجعله بمثابة عيد يتزين فيه العباد ويرجون من الرحمة فيه ما لا يرجونه في غيره، بل خصَّه الله تعالى بعدَّة خصائص إكراماً له، بأن جعله اليوم الذي أسكنه فيه جنَّته، واليوم الذي أهبطه إلى أرضه ليكون فيها خليفته، واليوم الذي قبل فيه توبته، وتفضَّل فيه سبحانه على عباده بساعة ما سأله فيها عبدٌ إلا استجاب له، ذلك اليوم هو يوم الجمعة الذي خلَّد الله ذكره في كتابه بأن أنزل باسمه إحدى سوره، قال صلى الله عليه وسلم: “خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ”.

• كذلك عظَّم الله تعالى يوم السبت وأمر اليهود بتعظيمه، وذلك بأن جعله يوماً لنجاة رسوله وكليمه عليه السلام، كما جعله يوم إذلالٍ وصغار لمن نازعه أُلوهيته، وادَّعى أنه الربُّ الأعلى، لذا جعله يوم راحة وسكون لهم، وهذا ظاهرٌ من اسمه فالسبت يعني السبوت والراحة والسكون، حرَّم عليهم فيه ما لم يحرمه في غيره، وأمرهم ألَّا يعدوا فيه وأن يحفظوه وألَّا يقربوا فيه ما حرمه عليهم؛ {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154]، فلمَّا خالفوه ولم يعظِّموه، سخطهم قردة وخنازير وجعلهم عبرة لغيرهم؛ {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]. وقد صحَّ أنَّ سيدنا موسى عليه السلام كان يصومه شكراً لله تعالى على نجاته من فرعون وقومه، ولطالما كان عليه السلام يُذكِّر بني إسرائيل به وباحتفاله، لأمر الله تعالى له بذلك وليكون عبرة لكلِّ صابر وشاكر؛ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] وتبعه في ذلك صالحو بني إسرائيل احتفالاً به واحتفاء وعدُّوه عيداً لهم، حتى قدم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم المدينة فوجدهم على تلك الحال من الاحتفاء والاحتفال به، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن شاركهم في احتفالهم وتعظيمهم لهذا اليوم فصامه وأمر بصيامه؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، وَجَدَ اليهود يَصُومُونَ يَوْم عَاشُورَاءَ، فسُئلوا عن ذلك، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، ونحن نصومه تعظيماً له، فَقَالَ: أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. بل أخبر بأنَّ صيامه يكفِّر سنة، فقال صلى الله عليه وسلم: “…وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ”( )، ليس هذا فحسب بل ندب صلى الله عليه وسلم التوسعة فيه على الأهل والنفس، فقَالَ: “مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَزَلْ فِي سَعَةٍ سَائِرَ سَنَتِه”، هذا، وقد شغب ابن تيمية رحمه الله على هذا الحديث، وقد قام بالرد عليه ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه الرد الوافر، حيث قال: “وقد روي حديث التوسعة يوم عاشوراء من حديث جابر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وابن عمر رضي الله تعالى عنهم وأصحها حديث جابر قاله أبو الفضل ابن العراقي، وقال أيضاً ورواه البيهقي في الشعب من قول إبراهيم بن محمد بن المنتشر، وأمَّا قول الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية: أنَّه ما روى أحد من أئمة الحديث ما فيه توسيع النفقة يوم عاشوراء وإنَّ أعلى ما بلغه فيه قول إبراهيم بن محمد المنتشر فهو عجيب منه فهو كما ذكرته في عدة من كتب أئمة الحديث”.

• إن الله تعالى عظَّم ذلك اليوم الذي افتدى فيه سيدنا إسماعيل عليه السلام جدَّ نبيِّه ومصطفاه من خلقه صلى الله عليه وسلم بأن جعله عيداً أكبراً بل وأقسم بفجره وليلته ثم أقسم به كلَّه تعظيماً له وتشريفاً في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر} [الفجر: 1 – 3]، قال أئمة التفسير: الفجر: فجر يوم النحر، والليالي: ليالي عشر ذي الحجة بما فيها لية يوم النحر، والشفع: يوم النحر. ليس هذا وحسب بل سنَّ ربُنا ورسوله الكريم الأُضحية للقادر عليها لِيَطْعَمَ منها ويُطْعِمَ موسِّعاً بها على نفسه وغيره احتفالاً واحتفاءً بذلك اليوم الذي نجَّى الله تعالى فيه سيدنا إسماعيل من الذبح وافتداه بكبشٍ من كباش جنَّته؛ {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107].

* إن دول العالم على اختلاف أديانها وتباين مذاهبها قديماً وحديثاً قد اتفقت أعرافها على الاحتفال بأيامِ فيها منّ الله عليها بالنصر، فما من دولة من دول العالم إلا وتحتفل بيوم استقلالها، أو بيوم نصرها، وتعتبر ذلك عيداً قومياً لها، وما أنكر ذلك أحد من عقلاء الناس، وإن الدولة التي كانت تحمل راية المتسلّفة بالأمس لتحتفل بعيدها القومي في هذه الأيام، وما رأينا ولا سمعنا واحداً من علمائها يقول: إن ذلك بدعة لم يفعلها رسول الله، أو ينكر ذلك عليها أو يتجرأ أن يفعل ذلك لا تصريحاً ولا تلميحاً، كما يعترض على من يحتفل بمولد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ويُبدّع من يحتفل به. فلماذا إذن هذه الجرأة المخزية منهم على الاحتفال بمولد سيد العالمين صلى الله عليه وسلم، “إنّ هذا لشيء عجاب”.

• إذا علمنا ذلك كلَّه أيقنّا أنَّ احتفالنا واحتفاءنا وفرحنا بيوم بل بشهر مولد نبيِّنا صلى الله عليه وسلم الذي كان مولداً للنور والرحمة، ومظهراً من مظاهر النعمة، فبه كمُل الدين وتمَّت النعمة ووجبت لأحبابه الجنَّة، من آكد السنن، ذلك النبيِّ الذي جعل الله اتّباعه عنواناً لمحبته تعالى وشرطاً لها؛ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، ولقد سبقنا سندنا وسيدنا صلى الله عليه وسلم بالاحتفال بذلك اليوم المجيد لا في كلِّ عام كما نفعل نحن بل كان يحتفل به كلَّ أسبوع؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين من كلِّ أسبوع ولمَّا سُئِلَ عَنْ سبب ذلك الصَوْمِ، قَالَ: “ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ”.

ولقد تجرَّأ من لا علم لهم ولا فقه بل لا قلوب لهم على إنكار الاحتفال بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم مدَّعين بأنَّ ذلك الأمر لم يفعله النبي ولا أحد من صحابته غافلاً عما ذكرناه آنفاً من مشروعية الاحتفال به وأنَّ النبيَّ هو أوّل من احتفل به بصيامه له وإقراره لمن صامه، كما أنَّ الله تعالى عظَّمه بأن جعل الأعمال ترفع فيه؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ.

وما الذي يحدث في احتفالنا بمولد نبيِّنا صلى الله عليه وسلم سوى الاجتماع على الذكر، من تلاوةٍ لآي القرآن الكريم، ومراجعةٍ للسنة النبوية المشرَّفة، ومذاكرةٍ للسيرة العطرة، والاستماع والاستمتاع إلى مدح من مدحه الله والثناء على من أثنى عليه، واجتماع الأحبّة على المحبّة، وإن حقَّقت وجدت ذلك كلَّه من الواجبات لا من السنن، فلمثل تلك الطاعات تتنزَّل الملائكة، ومع أهل تلك الاجتماعات تقعد، ولهم تستغفر، يغفر الله لهم ما استغفروا، ويُعطيهم ما سألوا، ويُجيرهم مما استجاروا، وبهم يفخر أمام ملائكته، هم القوم لا يُحرم من فضلهم أنيس، ولا يشقى بهم جليس؛ “عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ لِله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً، فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ، حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ، قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا، أَيْ رَبِّ قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ”.

فافرح أُخيَّ بمولد نبيِّك واسعد وغنِّي، وأعلم أنَّ الجنَّة لمُحبيه وقاصديه وعنهم قال: “أولئك منّي”، وكن موقناً بأن السعادة في محبَّته، والنجاة في سنَّته، والراحة تحت لوائه، والريَّ ليس إلا في حوضه، وردد معي قول سيدي علي بن أبي الوفا:

سكن الفؤاد فعش هنيئاً يا جسد * هذا النّعيم هو المقيم إلى الأبد
روح الوجود حياة من هو واجد * لولاه ما تمّ الوجود لمن وجد
عش في أمان الله تحت لوائه * لا همَّ في ذاك الجناب ولا نكد
عيسى وآدم والصّدور جميعهم * هم أعين هو نورها لمّا ورد
لو أبصر الشّيطان طلعة نوره * في وجه آدم كان أوَّل من سجد
أو لو رأى النّمروذ نور جماله * عبد الجليلَ مع الخليلِ وما عند
لكن جمال الله جلّ فلا يُرى * إلا بتوفيق من الله الصّمد
هذا، وصلّى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكل عام وانتم بخير.

زر الذهاب إلى الأعلى