قال تعالى فى محكم التنزيل “لاهية قلوبهم” ذكر ربنا العظيم هذا القول الكريم في صدر سورة من أجلّ سور القرآن أطلق عليها اسم سورة الأنبياء، قصّ علينا فيها جانباً من قصص أنبيائه ورسله، مبتدئا بسيدنا موسى وهارون ثم بسيدنا إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب، ثم سيدنا نوح، كما ذكر سيدنا داود وسليمان، ومن بعدهما سيدنا أيوب ويونس وزكريا ويحيى، ثم ختمها بذكر سيدتنا مريم وسيدنا المسيح، عليهم جميعاً وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، كل ذلك ليثبت قلب نبيه ومصطفاه سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا كلّه ليخبر تعالى نبيّه الكريم كما أخبر من كان قبله من أنبيائه ورسله بأنّ هناك فصيل من بني آدم قلوبهم لاهية ونفوسهم غاوية وأفئدتهم قاسية وبالتالي فإن جوارحهم حتماً عاصية، وما أدراك بقوم لاهية قلوبهم، وما أدراك بجوارح مُحرّكها لاهٍ، فالقلب كما قيل أمير وما سواه مأمور بأمره.
كان سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: “القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُث الملك خبثت جنوده”، وهذا كلّه من قول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: “أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ”.
وقد قسّم الصحابة رضي الله تعالى عنهم القلوب إلى أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن. وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر. وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمي. وقلب تمده مادتان، مادة إيمان، ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما”.
وكل هذه التقسيمات من الصحابة رضوان الله عليهم مستقاة من دستورنا الكريم.
فأما أولها، فهو القلب الأجرد الذي فيه سراج يزهر ، وهو قلب المؤمن، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه موصوفاً بأوصاف عشرة، وهي كالتالي:
1- الوجل، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
2- الطمأنينة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
3- الشجاعة في الحق ورباطة الجأش. قال تعالى: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: 14].
4- الإخبات والتواضع. قال تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: 54].
5- السلامة من الأغراض والأمراض، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 89].
6- الرقة واللين، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23].
7- السكون والهدوء لا سيما في مواطن الجزع، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4].
8- الإنابة، قال تعالى: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 33].
9- الخشوع للذكر والخضوع للحق، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد: 16.
10- الرحمة والرأفة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ [الحديد: 27].
وأما ثانيها، فهو قلب الكافر وهو الأغلف، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه موصوفاً بعدة أوصاف، منها:
1- الغفلة وعدم الفهم، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88].
2- الطبع والختم عليها، قال تعالى: ﴿ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ [الأعراف: 100]، وقال تعالى: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 7].
3- القسوة، قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله﴾ [الزمر: 22].
4- العمى، قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
5- الانغلاق، قال تعالى: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
وثالث تلك القلوب، قلب المنافق، وهو القلب المنكوس، وهو الموصوف في كتاب الله تعالى بالصفات التالية:
1- التغطية والستر عن الفهم، قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الكهف: 57].
2- الاشمئزاز من الذكر والأعراض عنه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الزمر: 45].
3- الغفلة، قال تعالى: (بل قلوبهم فِي غَمْرَةٍ) [المؤمنون: 63].
4- المرض، قال تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: 10].
5- الإصرار على النفاق. قال تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ [التوبة: 77].
أما الصنف الرابع، فهو القلب الذي تمده مادّتان، مادة النور ومادة الظلام، وهو قلب عامة المسلمين، وهو ذلك القلب المتقلّب بين القوة في الأخذ بالحق وبين ضعف التردد عنه، حسب ما يرد عليه من نور وظلمة، فتارة تراه رحيماً سليماً، خاشعاً خاضعاً، وجلاً مطمئناً، رقيقاً ليّناً، وتارة أخرى قد تراه ساهياً لاهياً، فظّاً غافلاً، وهكذا .
والمتأمّل عامّة المسلمين اليوم والمراقب لهم يجد أنّ قلوب الكثيرين منهم لاهية، وهذا ظاهر من أفعالهم، فعندما تلهو القلوب تلغو الألسنة وتضل الأفعال، فاللهو يقود إلى اللغو وكلاهما يقودان للضلال.
وما أدراك بقوم تدكّ حصونهم وتسبى نساؤهم وتنتهك مقدّساتهم وتُباد بلادهم ويُشرّد أطفالهم ليل نهار، ومع ذلك لا تنقطع لهم حفلات وأفراح في مشارق بلادهم وغربها، فما ينتهي لها موسم وإلا ويولد لها آخر، جلّ اهتمامهم مشاهدة اللاعبين ومتابعة اللاغين، قنوات تلافزتهم محصورة بين الاهتمام بفنون اللعب أو بفنون الطهي أو بفنون الرقص، [هذا إن صحّ أن يُطلق على هذه فنون] وإذا ذهبت لتراقب مسابقاتهم لا تراها تخرج عن مسابقة في الغناء وأخرى في الرقص وثالثة في الفهلوة والفكاكة، إلى غير ذلك مما يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح.
ما أريد قوله: إن بناء الأوطان والدفاع عنها لا يكون إلا بأصحاب القلوب الواعية لا اللاهية، وأصحاب الأفئدة الخاشعة لربّها لا الخاضعة للهوها، ومن هنا ينبغي علينا جميعاً أن نعمل على نشر الوعي وإيقاظ الهمم وتطهير القلوب وتزكية النفوس وتقويم السلوك، كل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البيّنة، لنعود إلى ما كنا عليه من ريادة وسعادة.
نسأل الله العظيم أن يردّنا أجمعين لدينه ردّاً جميلاً وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين، كما نسأله أن يثبت قلوبنا على دينه.