د. حسني ابوحبيب يكتب: فنّ الوعظ والدعوة
“فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً” [النساء: 63].
هذا القول الكريم نزل على قلب من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وآله وسلم، متضمناً ثلاثة أوامر لحبيب ربّه، ولكلّ من سار على دربه، ونال من إرثه، وكان له نصيباً من حاله وعلمه، تلك الأوامر ربّما رآها المتعجّل متعارضة فيما بينها، حيث إنّ أولها يشتمل على الأمر بالإعراض، أما ثانيها وثالثها فيشتملان على الأمر بالتعرّض، وما بين الإعراض والتعرّض كما بين المشرق والمغرب.
لذا بدأه الله تعالى بالفاء الفصيحة وهي التي أفصحت عن شرط مقدر أي: إذا كانت حالهم كذلك فأعرض عنهم ولا تقبل لهم عذراً، لكن في نفس الوقت لا تنفك عن التعرّض لهم بالوعظ تارة، وبالقول البليغ تارة أخرى، وقبلهما بالتربية لهم وبالتزكية لنفوسهم. وهذا يدل على معاملتهم بثلاثة أحوال: الإعراض عن أفعالهم لا عنهم، مع مداومة النصح والتذكير بالخير لهم لترقّ قلوبهم، والقول البليغ المؤثر في النفس بالترغيب تارة، والترهيب تارة أخرى ولتتهذّب طباعهم.
إنّ المتأمّل في هذا القول الكريم ليجد أنّه قد اشتمل على إيجازه وقلّة ألفاظه على فنّ الوعظ وفنّ الدعوة وبالتالي على فنّ التربية، أي تربية النفوس وتزكيتها، وهو الذي ينبغي أن يكون مقدّماً على الوعظ والإرشاد، ومن ثَمَّ نجده مقدّماً في القرآن الكريم على التعليم والإرشاد، إذ لا ينفع وعظ ولا إرشاد لأناس لم ينالوا حظّاً من التربية والتزكية، “لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ” [آل عمران: 164].
وهناك بونٌ شاسعُ بين الوعظ والدعوة والتربية، فالوعظ إنما يكون للمسلمين بما فيهم من منافقين، فهو لمن نطق بالشهادتين وإن كان نطقاً باللسان مع غفلة الجنان، وله مقوماته من علم وفقه وخلق حسن وقول بليغ وقبول لدى الموعوظين، ومن ثَمّ كان الصحابة يطلقون على تذكير الرسول لهم وتعليمه إيّاهم الموعظة لا الدعوة، روى الآجري عن العِرْبَاض بن سارية قال: “إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا بِمَوْعِظَةِ بَلِيغَةٍ ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا….”، وروى الحاكم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: “جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: ” أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ”. وهكذا ما كانوا يطلقون على تذكير الرسول لهم إلا الموعظة.
أما الدعوة فهي لغير المسلمين ليدخلوا في دين الله تعالى، ولها مقوماتها التي بيّنها الله تعالى في قوله: “اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ولذلك عندما كان يرسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحد صحابته لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام كان يقول لهم ادعوهم لا عظهم، روى الحاكم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: “بَعَثَنِي رَسُولُ الله إِلَى قَوْمِي أَدْعُوَهُمْ إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَعْرِضُ عَلَيْهِمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ،….”، كما كانت كتبه صلى الله عليه وآله وسلم كلّها التي أرسلها إلى ملوك الأرض ولغير المسلمين يقول في جميعها: “أدعوك بدعاية الإسلام” أي بدعوة الإسلام.
أما التربية والتزكية فشيء آخر، فإذا كان الوعظ والدعوة كثيراً ما يكونان بالمقال، فإنّ التربية غالباً ما تكون بالحال، ولا شك أنّ الحال أبلغ بكثير من المقال، ولهذا يُشير الإمام علي رضي الله عنه في قوله: “حال رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل”.
إن رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ظلّ يُربّي أصحابه ويزكّيهم سنوات بلغت أكثر من نصف عمر دعوته المباركة قبل أن يعلمهم كثيراً من الحلال والحرام، بل قبل أن يأمرهم بصلاة أو صيام أو زكاة وحج، وبما تغني الصلاة والصيام وسائر الأركان قوماً لم تُزكّى نفوسهم ولم تُطهّر أرواحهم، فلما زكت نفوسهم وتحوّل ذلك الفظ الذي كان يأد فلذة كبده وثمرة فؤاده بيده خشية أن يطعم معه إلى صاحب قلب رقيق وفؤاد سليم ومشاعر كالنسيم لا يكاد يصبر على بكاء صبي عندئذٍ فرض الله عليهم الصلاة وسائر الأركان.
إن عالمنا الإسلامي في عصوره المتأخرة وأيامه المعاصرة لا يحتاج إلى وعّاظ أو دعاة بقدر ما يحتاج إلى مربّين، فالوعاظ والدعاة ما أكثرهم في كلّ بلد، حتى إنّك لو ذهبت لتحصيهم عدداً، لوجدت عددهم في دولة واحدة يفوق عدد جيوش المسلمين مجتمعة تلك الجيوش التي انتصرت على فارس والروم وفتحت السند والهند ووصلت إلى سور الصين شرقاً وأبواب فرنسا غرباً ونشرت الإسلام في ربوع الأرض.
لكن ما الفائدة من وعظ بلا تربية أو دعوة بلا تزكية، لا تخلو قرية من عشرات الوعاظ، بل لا تكاد تخلو أسرة من واعظ. لكنه وعظ بالمقال يكذبه الحال، المقال يدعو إلى الله بينما الحال يدعو إلى ما سواه، كطبيب يداوي وهو مريض، حتى صار وعظهم وبالاً عليهم وعلى من يعظونهم، فشتتوا الأمة وفرّقوا دينها وجعلوه شيعاً، ولو تركوا وعظ غيرهم إلى وعظ أنفسهم لكان خيراً لهم وأقوم، ورحم الله أبا العلاء المعري إذ يقول:
لَعَلَّ أُناساً في المَحاريبِ خَوَّفوا * بِآيٍ كَناسٍ في المَشارِبِ أَطرَبوا
إِذا رامَ كَيداً بِالصَلاةِ مُقيمُها * فَتارِكُها عَمداً إِلى اللَهِ أَقرَبُ
لكنّ المربّين في ندرتهم بين الناس كالكبريت الأحمر، أولئك الذين يزكّون النفوس قبل تزكية الأبدان، ويعتنون بتطهير القلوب وتنقية الوجدان، فكم من ساكت أبلغ بدعوته من متكلم، أولئك الذين يتهمون أنفسهم على الدوام ويدعون مريديهم إلى هضم نفوسهم وكسر غرورهم، فهؤلاء قليل العلم ينفعهم، ويسير العمل يرفعهم، عبادتهم ليست كعبادة غيرهم، وثوابهم لا يُحصيه إلا ربّهم.
ما أريد قوله أحبتي الأكارم: إنّ على من يتسمون بالدعاة اليوم والذين قد يتيهون على مدعويهم بدعوتهم أو يتكبروا على تلامذتهم بعلمهم عليهم أن يراجعوا أنفسهم وأن يقوموا عليها بالتزكية والتربية والتهذيب والتأديب، وأن يجمعوا في دعوتهم بين الحال والمقال، بل عليهم أن يكسروا نفوسهم، وأن يُقدّموا حالهم على مقالهم، وأن يكونوا على حذر من دعوتهم، فكم من داعية إلى الله قطعته دعوته لسوء أدبه عن مولاه، فالتزكية لا تصلح ولا تقبل إلا من قوم كنسوا بنفوسهم المزابل.
وأختم بقول سيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه ذلك المربي العظيم إذ يقول: “…من لم يزدد بعلمه وعمله افتقاراً لربّه، واحتقاراً لنفسه، وتواضعاً لخلقه فهو هالك، فسبحان من قطع كثيراً من الصالحين بصلاحهم عن مُصلِحهم، كما قطع كثيراً من المفسدين بفسادهم عن موجدهم، “فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” [غافر: 56].
هذا، والله نسأل أن يزكي نفوسنا فهو خير من زكّاها وأن يلهمها رشدها فهو سيدها ومولاها. وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.