قال تعالى “أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه” [الأنعام: 122].
ذلك القول الكريم جاء في سورة هي من أجل سور القرآن الكريم قدراً، وأبلغها بياناً، وأشدّها وقعاً على النفوس، وأكثرها تأثيراً في القلوب، سورة كان نزولها جملةً واحدة على قلب رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، شيّعها سبعون ألف ملك من ملائك الرحمن، نزلت ورسولنا العظيم يعيش أصعب الأوقات وأحلكها، حيث التكذيب والسخرية والاستهزاء، والقلّة والضعف والإيذاء، حيث نزلت في العام الخامس من بعثته المباركة.
نزلت لتداوي المرضى، وتحيي الموتى، وبدلاً من أن يستقبل المرضى الطبيب بالحفاوة والترحيب، استقبلوه بالسخرية والتكذيب، وبدلاً من أن تفرح أمّة أوشكت على الموت بمن ابتُعث لبعثها، وأُرسل لحياتها، كذبته وآذته ولم تترك سببلاً لإيلامه إلا سلكته، ولا عملاً لهلاكه إلا فعلته.
جاء هذا القول الكريم في ذلك الوقت العصيب ليخاطب أذاناً لطالما صُمّت عن سماع الحق، وليفتح عيوناً لَكثيراً ما عميت عن رؤية الآيات، وليحاور قلوباً علاها الران من كثرة البعد عن الديان، فاتخذت الهوى إلهاً واللعب منهجاً والبغي شريعة، حتى صدق قول الله فيهم لنبيّه: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ” [الجاثية: 23].
أمة مرضت وتمكّن منها داؤها حتى انتشرت منها رائحة الموت فتناوشتها ذئاب الأمم من أقطارها، فهؤلاء الفرس أخذوا منها عراقها ويمنها، وأؤلئك الروم قد نزعوها شامها وقدسها، حتى الأحباش تجرأوا على الإقدام لهدم بيتها وحرمها.
ولا شك أن للموت رائحة تنبعث ممن مات من الفرائس أو أوشك على الموت لا يشمّها إلا مفترسوها، لذلك عندما تضعف أمة من الأمم وتمرض ويتمكّن منها مرضها وتوشك على النهاية تنبعث منها رائحة تستفز مشاعر السباع والضباع، وتهيج لها شهية الصقور والنسور، حتى هوام الأرض وديدانها يدعوا بعضهم بعضاً لينال نصيباً من تلك الجيف التي ماتت أو كادت.
لذا عندما ترى سباع العالم وضباعه يتداعون على أمة فاعلم أن تلك الرائحة قد فعلت فعلها في غرائزهم، ولن تنجو تلك الأمة منهم إلا إذا تعافت وعادت إليها قوتها.
والمتأمل حال أمتنا من عقود يجد أن المرض قد تمكّن منها لذا قصدها ضباع العالم وسباعه من المشارق والمغارب يريدون التهامها، حتى إن هوامّ الأرض تداعت عليها، لتنال منها نصيباً، وبالفعل قد سلبتها قدس أقداسها، أولى قبلتها ومسرى نبيها، وصدق الرسول الكريم إذ يقول”يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا”. لما قال ذلك صلّى الله عليه وسلّم هال الصحابة قوله، فظنوا أن ذلك إنما يكون لقلّة عدد أو ضعف عُدد، لكنه أوضح لهم الأمر بأنهم سيمرضون حتى تنبعث منه رائحة كتلك الروائح التي تنبعث من غثاء البحر وجيفه، فعندئذ تتداعى عليهم كلاب الأمم لتنال منهم حظها، “قَالَ [راوي الحديث]: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”. فلا مهابة من مريض كما أنه لا هيبة له.
وليس العيب في المرض إنما العيب في الاستسلام له، وعدم التداوي منه، لا سيما لمن يملك دواءه، وهذه الأمة جعل الله بلطفه دواءها في متناول يدها، وهو كتابها الذي فيه مجدها وعزّها بل وبقاؤها، “لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ” [الأنبياء: 10] ، “وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ” [الزخرف: 44]، فالدواء والشفاء ليس إلا في كتاب الله، “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ” [الإسراء: 82] كذلك الحياة ليست إلا منه وفيه، “وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا” [الشورى: 52]. فهو الدواء الناجع لكل مرض، بل هو الروح التي بها يحيى كلّ جسد، فهو والسنة الهاديان لكل ضال، وهما الثقلان، لن يضل من استمسك بهما وسار على نهجهما وأحيا شرعهما، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتي”.
“أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه” لطالما نشر الله أمماً اهتدت بهديه، وأحيا دولاً بإحيائها لشرعه، ونصر مهزومين لنصرهم دينه، ومكّن لمستضعفين اعتصموا بحبله، “وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ” [الحج: 40].
لذا إذا أردنا أن نطرد عن بلادنا سباع العالم وضباعه الذين عاثوا في بلادنا فساداً، فليس أمامنا إلا الرجوع لكتاب ربنا والتمسك بسنة نبينا، رجوعاً واعياً، وتمسكاً ناضجاً، حيث نأخذ علمهما من أهلهما المتخصصين في علومهما، ليأخذوا بأيدي الأمة إلى الوحدة والاعتصام، “وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ” [النساء: 83]. ولا أرى أحداً أجدر بهذا الدور الأهم في تلك المرحلة العصيبة التي تمر بها أمتنا إلا علماء الأزهر الشريف وشيوخه فهم الأقدر على استنباط أحكامه، أولئك الذين شربوا العلم من منهله الصافي، والذين لطالما حافظوا على تراث الأمة وحضارتها، جهداً وجهاداً، تعلّماً وتعليماً، لقد آن أوانهم ليهبوا قائمين بما اصطفاهم الله تعالى له، وليبلغوا ما اختصهم الله تعالى به، قياماً بواجب الأمانة التي حملوها والتي سيسألون حتماً عنها، بل يجب على كلّ من لديه بصر وبصيرة أن يهبّ لنشر الوعي بين المسلمين بضرورة العودة إلى الدين بقيمه وأخلاقه، لنعود أمة واحدة كما كنا، لنصبح أخوة متحابين لا أعداء متناحرين، نتعاون على البر والتقوى، تجمعنا لا إله إلا الله، وتؤلف بين قلوبنا محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا والله أسأل أن يكشف الغمة عن الأمة وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من مكروه وسوء.