“لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى” [الحديد: 10].
أتى هذا القول الكريم بعد أمر مباشر من رب العباد للعباد بالإيمان به والإنفاق مما أعطى ووهب، “آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ” [الحديد: 7]. فهذا حثٌّ منه سبحانه على الإنفاق في سبيله، لا سيما وأن المال ماله، أمّا من بيده المال فلا يزيد عن كونه مستخلفاً فيه، ولا بدّ للمستخلف أن يردّ ما استُخلف فيه لمن أَخلف به عليه، وما دام الأمر كذلك فلم الإمساك والتقتير ؟!!، وقد وعد المُستخلِف المستخلَف بأن يُخلِف عليه ما أنفق، “وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” [سبأ: 39].
ثم يأتي التعجّب من أمر هؤلاء الممسكين بعد أن علموا أنهم مجرد مستخلفين في المال لا غير، ليس هذا وحسب بل إن المال كلّه حتماً راجعٌ إلى من استخلفهم فيه رجوع الميراث إلى وارثه، “وَما لَكُمْ أَلاّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ” [الحديد: 10]. فصاحب المال إن علم أن المال ليس ماله وأنه راجع إلى صاحبه ولن يبقى له منه إلا ما أنفقه سارع في إنفاقه في مرضات ربّه ورازقه، “عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وَهُوَ يَقُولُ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ”.
والآية الكريمة التي نحن بصدد الحديث عنها تُبيّن أنّ المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات الله تعالى درجات، فبعضهم أعظم درجة من بعض، وإن كانوا جميعأ مشتركين في التعظيم عند العظيم سبحانه.
وإذا كانت قد نزلت لتُبيّن فضل أولئك الذين أنفقوا أموالهم قبل فتح مكة حيث كان العوز أكثر والحاجة أشد، على هؤلاء الذين أنفقوا بعد فتح مكة بعد أن قلّ العوز وكثر المال، إلا أنني أرى أن هذا القول الكريم أعم من ذلك وأشمل، فالفتح هنا نعم المراد به فتح مكة لا شك في ذلك، لكنه أيضاً يشمل كلَّ فتح، أخذاً بقاعدة: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”. فالفتح له معانٍ كثيرة، فقد يكون فتحاً بالمال، وعليه فلا تستوي نفقة المنفِق وهو فقير قبل أن يفتح الله له بالغنى بنفقته وهو غنيّ وقد فتح الله له، فالأولى لا ريب أعظم من الثانية.
من هنا نقول: إن درجات الإنفاق تتفاوت بتفاوت حاجة المنفِق لما يُنفِق، كما تتفاوت بتفاوت حاجة المنفَق عليهم إلى النفقة، فكلّما كانت الحاجة أكثر إلى ما يُنفَق سواء كانت من المنفِق أو المنفَق عليهم كلّما كان ثواب النفقة أكثر ودرجتها أرفع، فلا تستوي نفقة الفقير الذي هو في حاجة إلى نفقته وهو في حالة إغلاق، مع نفقة غنيٍّ وسَّع الله عليه وفتح له وهو في غنىً عما ينفق، فلا شكّ أن نفقة الأول أعظم درجة من نفقة الثاني.
هذا ما بيّنه حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، والذي أجاب به ذلك السائل الذي جاء يسأله: أي الصدقة أفضل أجراً وأكثر ثواباً وأعظم منزلة؟، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: “أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحقوم قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لفلان” (سنن ابن ماجة).
لذا حُقَّ لدرهم قبل الفتح أن يسبق مائة ألف بعد الفتح، وإن شئت قلتَ حُقَّ لدرهم ممن هو في حالة إغلاق أن يسبق مائة ألف ممن هو في حالة فتح، هذا ما نستشرفه من حديث نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه النسائي وغيره بسنده عن سيدنا أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: “قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ؟ قَالَ: رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا”.
وقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يعلمون ذلك فكانوا ينفقون على عوزهم وشدة فاقتهم، كان سعيد بن عامر رضي الله عنه من الزُّهَّاد العُبَّاد، بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه أصابته جراحةٌ شديدةٌ، فأرسل إليه بألف دينارٍ، فتصدَّق بها جميعًا، وقال لزوجته: أعطيناها لمن يتجُر لنا فيها.
وهذا علي بن محمد بن علي بن هذيل رحمه الله، المقرئ، الزاهد، كان كثيرَ الصدقة، يتصدَّقُ على الأرامل واليتامى، فقالت له زوجته: إنك لتسعى بهذا في فقرِ أولادك، فقال لها: لا والله، بل أنا شيخٌ طمَّاعٌ أسعى في غناهم.
كذلك تتفاوت النفقة بحال المنفَق عليهم، فلا تستوي النفقة في وقت الأزمات وانتشار الفقر وزيادة الغلاء بالنفقة في الأوقات العادية حيث قلّة الفقر ورخص الأسعار، فلا ريب أن الأولى أعظم أجراً من الثانية. كما أن صاحب الأولى إلى الله تعالى أقرب ومنه أرجى وله أتقى، أخرج الإمام أحمد عن أنس قال: “كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: دعوا لي أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد، أو مثل الجبال ذهبا، ما بلغتم أعمالهم”. وما ذاك إلا أن نفقتهم كانت والناس إليها في أمس الحاجة.
وعلى النفقة تنسحب جميع الأعمال وكافّة القربات، فإنها تتعاظم فيما بينها على قدر الكُلْفَة التي يجدها منها مؤدّيها وعلى قدر استفادة ما أُدّيَت إليه منها، فمثلاً كلمة الحق وشهادة العدل من ضعيف يخشى البطش ويخاف القهر، لا تستوي بمثلها من قويٍّ لا يخشى بطشاً ولا يخاف قهراً، فإن كانت من الثاني جهاداً فهي من الأوّل أفضل الجهاد، روى الطبراني في معجه: “عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَجُلًا عَرْضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ”.
كذلك لا تستوي صدقة التبسم من حزين مهموم في وجوه الناس ليسعدهم بأختها ممن فُتِح لهم بالسعادة والسرور، فلا غرو في أنّ الأولى أعظم من الثانية، ولقد كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم على الرغم من تواصل أحزانه وكثرة همومه لا يُرى إلا متبسماً، وكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم، وصدق فيهم قوله تعالى: “وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ” [الحشر: 9].
وعلى هذا أخي الحبيب قس فلا يستوي عمل قبل الفتح بمثله بعد الفتح، وإن اشتركا في العظمة والتعظيم، غير أنّ أولهما أعظم من تاليه.
ما أريد قوله: أن للفتح معانٍ كثيرة، فكما يكون فتحاً بالمال يكون فتحاً بالجاه والسلطان، كذلك يكون فتحاً بالقوة ونفوذ الكلمة، كما يكون فتحاً بالصحة والعلم والتمكين، إلى غير تلك المعاني التي من الممكن أن تستوعبها تلك الكلمة القدسية.
هذا والله تعالى نسأل أن يفتح لنا أبواب الخير وأن يفتح بنا كل خير، وأن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.