منذ اندلاع الحرب الأخيرة في غزة، عادت إلى السطح محاولات قديمة – متجددة – لفرض واقع جديد على الفلسطينيين، واقع أساسه التهجير، وميدانه سيناء والأردن، ومهندسه هذه المرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي اتسمت قراراته بشيء كبير من عدم المنطقية ،لكن في قلب هذه العاصفة، ظلت القاهرة على موقفها الثابت وهو لا تهجير، لا تصدير للأزمة، ولا مساس بثوابت الأمن القومي المصري.
وعلى مدار عقود، كان هناك من يتصور أن سيناء يمكن أن تكون حلا لمأزق القضية الفلسطينية. الفكرة لم تكن وليدة اليوم، فقد طرحت منذ الخمسينيات ، ثم ظهرت في السبعينيات والثمانينيات، وتكررت في التسعينيات من القرن الماضي مع مقترحات التوطين. واليوم، يخرج ترامب ليحيي هذه الأطروحة من جديد، متصوّرًا أن بوسع مصر أن تقبل بها، أو أن الفلسطينيين يمكن أن يجبروا عليها.
ولكن هذه الحسابات تتجاهل أن سيناء ليست أرضًا بلا صاحب، وأنها لم تكن يوما مستودعا لحلول الآخرين، وإنما جزء لا يتجزأ من الجغرافيا المصرية والسيادة الوطنية، دُفعت في سبيلها الدماء، وسُطرت فيها صفحات من النضال، منذ العدوان الثلاثي وحتى معارك التحرير في أكتوبر 1973.
عندما تحدث الرئيس السيسي بلهجة واضحة وقاطعة، رافضا فكرة التهجير، فهو لا يطرح موقفا شخصيا أو سياسيا مؤقتا، بل يعبر عن رؤية دولة تدرك أن فتح هذا الباب يعني إعادة رسم خرائط المنطقة، وتهديد الأمن القومي المصري، وزعزعة استقرار الأردن، وتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية لاجئين بلا وطن ، بدلا من قضية شعب محتل له حق في أرضه.
إن الموقف المصري ليس مجرد رفض شكلي، بل هو إدراك استراتيجي لحقيقة أن تهجير الفلسطينيين من غزة – ولو مؤقتا – يعني تكريس واقع يصعب العودة عنه، ويعطي إسرائيل الفرصة لتفريغ القطاع من سكانه، وهو ما ينسف أي أفق لحل الدولتين، ويفتح الباب أمام سيناريوهات لا تخدم سوى الأطماع الإسرائيلية.
أما ترامب، الذي لا يزال يرى العالم من منظور الصفقات والإملاءات ، فيتصور أن بإمكانه فرض ما يريد، متجاهلًا أن الشرق الأوسط ليس مشروعًا استثماريا، وأن قضايا الشعوب لا تدار بمنطق التفاوض على العقارات.ولقد حاولت إدارة ترامب – حين كانت في السلطة – فرض “صفقة القرن”، وحين واجهت الرفض العربي، تراجعت الفكرة إلى الخلف، لكنها لم تختفِ من تفكير الرجل، الذي عاد ليطرحها الآن وكأن شيئا لم يتغير. لكن ما فات ترامب أن الزمن تغيّر، وأن المنطقة لم تعد كما كانت، وأن قوة الضغط الأمريكي لا يمكنها أن تفرض على القاهرة أو عمان ما ترفضانه بإجماع شعبي ورسمي.
وفي مثل هذه اللحظات، يحسن أن نتذكر التاريخ. فحين تم طرح التوطين في الخمسينيات، كان الرد المصري حاسما. وحين حاولت بعض القوى الدولية فرض واقع مشابه بعد 1967، كان الموقف العربي – رغم اختلاف الظروف – واضحا. واليوم، في مواجهة ضغوط جديدة، تظل مصر على عهدها، تدرك أن الحل ليس في التهجير، بل في إنهاء الاحتلال، وأن القضية ليست البحث عن أوطان بديلة، بل استعادة الوطن المسلوب.
هكذا كان موقف مصر، وهكذا سيبقى..