اتشح الشارع بالسواد. شرذمة من الأشرار تقود الرجل، وتقذع له القول. تلقاه مدير الشركة بوجه متجهم، ثم خاطبه بصوت كالحرباء:
– ما حملك على ما فعلت!
صمت الرجل، فلم ينبس، وتولى المدير عنه قاصدًا باب الشركة. أشار إليهم أن يتركوه ساعات على أن يلاحظوا قوة تحمله حتى يطلب الرحمة أو …
توسد إسماعيل الأرض. أربع أشبار تكاد تغمره وكأنها زنزانة للمجرمين. نتأ الشعر بكثافة في وجهه في أسبوع، فاستحال شيخًا فانيًا في برهة مع أنه لم يجاوز الخمسين.
هز رأسه لعله ينثر عنه رذاذ الألم العالق. صمدت عيناه للدمع فتحجر معينها. سدد لهما
ضربات براحتيه قائلا:
– ألا تبكيان؟!
ولكن ما جدوى البكاء وهل يشفع له! فمن قبل لم يشفع له مرض زوجته وموتها، ثم موت ابنه في حادث، كان وحيدًا في كل ذلك! بل وُجه باللوم من مدير الشركة وبعض من حوله، وعلا صوت المدير موبخًا:
– الشغل شغل يا محترم!
تبا! لا يزال يذكر دقه يديه على مكتبه وقتما استدعاه للتحقيق، بل لا يستطع نسيان تلك الطلة العاتية التي اتسم بها وجهه كلما رآه. ويومًا قال لإسماعيل بعض من كان يعرفه “المدير معروف بعداوته للنجاح، ويتضاعف الحنق لو كنت ذا سحنة بهية، وقوام قيادي، وملبس حسن.”
ونظر عبر فُرجة صغيرة، فصادف عينا تلاحظه. ما لهم لا يتركونه في منفاه خير من تعقبه!
وسمع أصواتًا:
– ألم يطلب العفو؟!
– لا.. ما زال صامدًا يا سيدي!
ومرت ساعات وساعات. ذهبت شهية النوم أيضا كما ذهبت شهية الطعام.
فتح أحدهم الباب، وناداه بجفوة:
– قم لتمثل أمام النيابة، وإياك أن تذكر شيئا عن بقاؤك هنا!
ومشى متثاقلًا بنيانه، لم يظهر عليه انزعاجًا قط! زاد حنقهم عليه، فبلغ ذروته! ثم سرعان ما مثل أمام شاب في مستهل عمره.
قال له المحقق في اتهام مباشر:
– لم سرقت؟
ورنا إليه إسماعيل بحنو، وقال متغاضيًا:
– كان لدي ابن يشبهك.. مات منذ أشهر بعد أمه!
تغافل المحقق عن ذلك، ومضى كالسيف لا يلين.
استطرد:
– لمَ يتهمك هؤلاء بالسرقة؟
وصمت إسماعيل مكتفيًا بنظرة هازئة أطارت لب المحقق الذي انفجر موضحًا حقيقة اتهامه:
– كيف استحوذت بمفردك على معدات مستوردة وآلات بملايين! أين خبأت سرقتك؟
واستيأس المحقق من إسماعيل؛ فأودعه محبسه، ثم أمر بدخول مدير الشركة.. الذي صادف إسماعيل بالردهة، فرمقه بتقزز..
قال المدير- منتشيًا – للمحقق الشاب وهو يغوص في أريكة ناعمة تواجه تلفاز يبلغ ثلثي الحائط:
– لن أعفو عنه حتى يطلب العفو والسماح.
– هل تقصد أن … مجرد اختبار ساخر للرجولة؟
أومأ المدير برأسه في زهو وخيلاء. وسرعان ما طلب المحقق من كاتبه أن يغلق المحضر، ثم ارتشف مع المدير كوبًا من الشاي، وهما يتجاذبان الحديث.
ثم سُمعت جلبة بالخارج.. صاح أحدهم:
– لقد سقط المتهم مغشيًا عليه!
وجاء الطبيب، فقرر سوء حالته الصحية. التقت عينا إسماعيل بعين المدير في المستشفى.
غمغم المدير ناقمًا:
– ألا يسعك أن تنطق كلمة واحدة، فينتهي كل شيء.. كلمة تريح بها نفسي، وتنال بها الرحمة.. يا لك من عزيز النفس!
ونحى إسماعيل وجهه، وراح في غيبوبة طويلة.