Site icon بوابة العمال

د. حسني ابوحبيب يكتب: أصحاب الأقوال وأرباب الأفعال

قال تعالى “لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ” [النور: 11].
كثير من الخير قد لا يأتي إلا متوشّحاً وشاح الشر، كما أنَّ من النعم ما لا تكون إلا في زيِّ المحن، لا يرى ذلك إلا أولو الألباب والبصائر، ولا يؤمن به إلا من رُزِق الثقة في الله وحسن الإيمان به.

كثيرون هم الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وبالتالي فإنّ بصرهم الكليل لا يرى ما يتجاوز أرجلهم من أمور يعيشونها، بيد أنَّ أهل الله وخاصّته لا ينقطع لهم في مولاهم أمل، ولا يخيب لهم فيه رجاء، وكلّما تهتُكت أسباب الأرض زاد رجاؤهم في أسباب السماء، إذ إنَّ أبوابها لا تغلق أبداً، ومن هنا كانوا يخاطبون الأزمات متحدين إياها بربِّهم: “اشتدِّ يا أزمة تنفرجي”، وكانوا في حالة القبض أرجى منهم في حالة البسط، لإيمانهم أنَّ القبض لا يعقبه للمستمسكين بحبل الله إلا البسط، وأنَّ كلّاً من عنده سبحانه، “واللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُط” [البقرة: 245]. بل إنّهم كانوا يخافون من البسط أكثر من خوفهم من القبض، لعلمهم بأنّه لا يقف على حدّ الأدب في البسط إلا القليل، ولأنهم وعوا قول نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم مقسماً لهم، “فوَاللَّه مَا الْفقر أخْشَى عَلَيْكُم، وَلَكِنِّي أخْشَى عَلَيْكُم أَن تبسط الدُّنْيَا عَلَيْكُم كَمَا بسطت على من كَانَ قبلكُمْ، فتنافسوها كَمَا تنافسوها، وتهلككم كَمَا أهلكتهم”[صحيحالبخاري].

لذا فآنّ المتتبع للأحاديث المبشّرة بالنصر والتمكين لهذه الأمّة التي قالها رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ليجد أنه ما قالها صلى الله عليه وآله وسلم إلا في أشدّ الأوقات وأحلكها، فينما هم قلّة مستضعفون في مكة، جاءه يوماً خبّاب بن الأرت مشجوجاً من أحد المشركين والدم يسيل على وجهه قائلاً له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا، فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم مبشّراً: “…وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ” [صحيح البخاري].

وتمرّ الأيّام بعدها ويحقّق المسلمون النصر تلو النصر، حتى يجتمع عليهم العرب قاطبة محاصرين لهم في مدينتهم حتى ألجؤوهم إلى حفر الخندق ليحتموا به، وسيطر الهلع على ضعاف الإيمان ومن لا يرون إلا الظاهر، وبينما هم يحفرون الخندق يسوق لهم صلى الله عليه وآله وسلم البشرى بفتح الشام والعراق واليمن، حتى قال أحد المنافقين يُبشّرنا محمد بفتح الشام والعراق واليمن وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى خلائه منفرداً.

نعم “لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ” إيّاكم أيها المؤمنون أن تحسبوا ما ترونه من تخاذل عن قضية الأمة وعن قدسها، وجبنٍ عن نُصرتها شراً، بل هو خير، ليميز الله الخبيث من الطيب، وليعلم الناس المؤمن من المنافق، وليرى كل المسلمين من هم أصحاب الأقوال ومن هم أرباب الأفعال، وفي ذلك الخير كل الخير.

إنّ المواقف وحدها هي التي تظهر الناس على حقائقهم، وهي وحدها القادرة على إظهار معادنهم، فشتّان بين من يبذل نفسه في سبيل الله وبين من يبيعها لأعدائه، فرق كبير بين من ينفق ماله لبناء وطنه وإعداد جيشه، وبين من ينفق ماله ليساهم في نهضة عدوه وقتل أبناء أمته.

نعم “لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ”، فأبشروا فإنّ النصر لهذه الأمة لهو أمر محتوم سبقت به كلمة الله تعالى التي لا رادَّ لها، “وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ” [الصافات: 171 : 173]. فمن يستطيع أن يؤخّر ما قدّم الله، أم من يستطيع أن يغلب من نصره الله. البشرى للمؤمنين بأن الجزر سيتحول مدّاً بإذن الله تعالى

والتاريخ خير شاهد فكم من مرّة تشتت هذه الأمة وتمزّقت، لكن بفضل الله تعالى وبخير أجناد الأرض الذين بهم نفخر أولئك الذين نالوا شرف توصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم ودعائه لهم، تنهض هذه الأمة وينقلب جزرها مدّاً وتتحول هزائمها نصراً.

ما أريد قوله: ينبغي علينا جميعاً أن نعود لربنا وأن نستمسك بديننا، وأن نحافظ على هويتنا، وأن نكون على قلب رجل واحد خلف قادتنا، وأن نحاول جاهدين تصحيح أخطائنا وتصويب أفعالنا.

هذا والله أسأل أن يكشف الكرب عن أمة نبيه وحبيبه، وإن يلم شملها ويصلح ما فسد منها، وأن يعجّل بنصرك لإخواننا في فلسطين ويكشف عنهم ما هم فيه.

Exit mobile version