في غزة أشياء لا يصدقها العقل، حوادث خارقة لقوانين الطبيعة، في غزة، كل شيء قابل للكسر.. حتى القلوب التي صُنعت من صبرٍ وحديد.
في غزة، تُسلب الحياة من بين أذرع الأمهات، وتُكتب المآسي على جدران البيوت قبل أن تُكتب في دفاتر التاريخ.
في ركنٍ صغير من قطاع غزة، لم تكن ضربة صاروخية للاحتلال الإسرائيلي فقط هي ما أصاب بيت الدكتورة آلاء النجار، بل كانت قنبلةً على قلب أم، وطعنةً في ظهر الإنسانية، وحكايةً تفيض بالألم والصبر والإيمان.
الدكتورة آلاء النجار.. أم وزوجة وطبيبة، لم تكن تعلم أن ساعات العمل في مستشفى التحرير بمجمع ناصر الطبي، ستُبعدها إلى الأبد عن صغارها، كانت تداوي الجرحى، تُمسك بيد الحياة، وتقاوم الموت، لكنها لم تستطع أن تحمي بيتها من صاروخٍ إسرائيلي غادر خطف 9 من أبناءها أكبرهم لم يتجاوز 12 عامًا، وهم يحيى، وركان، ورسلان، وجبران، وإيف، وريفان، وسيدين، ولقمان، وسيدرا، في حين أُصيب آدم، وهو الطفل الوحيد المتبقي، وزوجها الدكتور حمدي الذي يرقد الآن في العناية المركزة.
كيف لقلبٍ أمضى سنواتٍ يزرع الحب، ويرجو الغد، أن يحتمل لحظةً تُسلم فيها أشلاء أولاده؟ كيف لصوتها أن يبقى حيًا وهي ترى أسماءهم محفورة على أكياس الوداع الأخيرة، لا على شهادات التخرج والزفاف؟ إنها مأساة تفوق الوصف، وتختنق أمامها الحروف.
في غزة لا تنتهي القصص، لكنها تظل شاهدة..
قصة آلاء النجار ليست استثناءً، بل عنوانًا لملحمة تُكتب كل يوم بالدموع والدماء.
في غزة، اسم آلاء النجار أصبح عنوانًا للفجيعة، وشاهدًا حيًا على أن ما يجري هناك ليس حربًا يشنها احتلال إسرائيلي متوحش فقط، بل محاولة لكسر الروح، للعبث بسنن الكون، لتجريد الحياة من معانيها. لكن غزة، التي أنجبت آلاء، لا تنكسر، بل تقف على الأطلال وتقاوم، وإن كان الثمن باهظًا حدّ النزف.
ونحن في نقابة أطباء مصر، إذ نعزي الطبيبة الصابرة، الدكتورة آلاء النجار، ونعزي من خلالها كل أم فلسطينية، وكل أب فقد أبناءه، وكل قلب في غزة ينزف ألماً ولا يجد ملاذًا، فإننا نجدد العهد بأن تبقى غزة في ضميرنا المهني والإنساني، ونُرسل من هنا صرخة مدوية إلى كل ضمير حر، بأن ما يحدث في القطاع ليس مأساةً إنسانية فحسب، بل جريمة تتواصل أمام أعين العالم، في ظل صمتٍ دوليٍّ مُخجل، وعجزٍ عربيٍّ لا يليق بتاريخ الأمة ولا كرامتها.
وتُطالب النقابة العامة لأطباء مصر بفتح تحقيق دولي عاجل وشفاف في الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين في قطاع غزة، وفي مقدمتها المجازر التي تستهدف الأسر الآمنة والأطقم الطبية والمنشآت الصحية، والتي تُعد انتهاكًا صارخًا لكل القوانين الإنسانية والأعراف الدولية.
إن استهداف بيت الطبيبة آلاء النجار وما خلّفه من فاجعة إنسانية يُمثل دليلًا دامغًا على طبيعة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال، ما يستدعي تدخلاً دوليًا فوريًا لضمان محاسبة المسؤولين عنها، ووقف هذا النزيف المستمر للدم الفلسطيني، وحماية ما تبقّى من إنسانية تُنتهك على مرأى ومسمع من العالم.
لقد اطمأنّ الاحتلال إلى أن ردود الفعل على المجازر والجرائم في غزة لن تتجاوز بيانات الشجب الباهتة والإدانات الباردة، في وقتٍ تشتد فيه الحاجة إلى مواقف ترتقي إلى حجم الكارثة.
فما يجري ليس اختبارًا لصبر غزة فحسب، بل هو اختبار لشرف الأمة وكرامة الإنسانية كلها. ولذا، فإننا في نقابة الأطباء نناشد المؤسسات العربية والدولية، أن تتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية، وأن تتحرك بما يليق بحجم الدم المسفوك، والكرامة المنتهكة، والقلوب التي تتفطر كل لحظة في أرضٍ لم تعرف إلا الألم والمقاومة.
الكاتب الصحفي محمد فتحي المستشار الإعلامي لنقابة أطباء مصر.