منظمة العمل الدولية تسعى لفرض عقد اجتماعي عالمي جديد.. والعدالة الاجتماعية ركيزة أساسية للسلام الدائم
اتفاقية تحديد الحد الأدنى للأجور رقم 131 لسنة 1970 أصبحت ملزمة وعقوبات قانونية ضد المخالفين

كتب: محمد حربي
تتجه عيون العمال، نحو جنيف؛ حيث تُعقد الدورة الـ ” 113 ” لمؤتمر العمل الدولي، أو ما يُطلق عليه ” البرلمان الدولي للعمل”؛ الذي تنظمه منظمة العمل الدولية، بمشاركة وفود 187 دولة؛ لتعزيز الحوار الثلاثي، بين ممثلي: الحكومات، وأصحاب العمل، واتحادات العمال، والوقوف على مدى تطبيق المعايير، والاتفاقيات، والتوصيات، وتعزيز العمل اللائق؛ من أجل الدفع قدماً بالعدالة الاجتماعية، كركيزة أساسية للسلام الدائم، وإمكانية إعادة صياغة عقد اجتماعي عالمي جديد، بمفهوم نظرية الفلسفة الأخلاقية والسياسية؛ التي تبلورت في عصر النهضة، والتنوير في الغرب، على يد العالم الفرنسي جان جاك روسو.
وقد تأسست منظمة العمل الدولية”ILO”، بموجب البند الثالث عشر من معاهدة فرساي- أنهت الحرب العالمية الأولى في عام 1919م.-، لحماية حقوق العمال، لتعويضهم عن الكثير من الأضرار، وعلى ركيزة أساسية، قوامها أن العدالة الاجتماعية ضرورية للسلام العالمي والدائم؛ حتى أنه محفور في وثيقة جنيف ” من كان يبتغي السلام فليزرع العدل”؛ على الرغم من أن واقع الصورة مغايراً تماماً لهذه المثل العليا؛ حيث الحقوق ضائعة، والقوانين ليست حاسمة، والحق أصبح شبه مستحيل، في كثير من المجتمعات المختلفة حول العالم.
ومنذ البدايات الأولى لمنظمة العمل الدولية، في لندن، وهي تركز على تعزيز مبادئ الحد الأدنى للأجور من خلال اتفاقيات دولية، وتشجيع البلدان على اعتماد سياسات لضمان وجود حد أدنى للأجور يعكس مستوى معيشة لائق للعمال؛ حتى أن الاتفاقية رقم” 131 “لسنة 1970م.؛ والتي أصبحت ملزمة، والخروج عنها له عقوبات جزائية قانونية. وقد أكدت المنظمة في تقريرها العالمي للأجور لعامي 2012/2013م.، على ضرورة اعتماد الدول لسياسة الحد الأدنى للأجور؛ باعتبارها السبيل إلى توفير الحماية الاجتماعية، والعيش الكريم، ومستوى معيشي لائق للعمال وأُسرهم، يتلاءم وتكاليف المعيشة المتغيرة تضخمياً.
ووفقاً لمؤشرات التقرير العالمي للأجور، التي تشير إلى أن نصف العمال بالدول النامية، البالغ تعدادهم نحو (209) مليون عامل في (32) دولة نامية، يتقاضون أجراً ما دون (2 دولار أمريكي) في اليوم الواحد؛ بينما في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الحد الأدنى لأجر العامل، يقدر بنحو ” 7.25 ” دولاراً في الساعة؛ بينما سياسة الأجور في الاتحاد الأوروبي، وإن كانت ليست على نمط ومعيار واحد؛ إلا أن الحد الأدنى للأجور في العديد من الدول الأوروبية، يتراوح ما بين ” 3.58 ” يورو للساعة في بلغاريا، إلى “14.01 ” يورو للساعة في دولة لوكسمبورج.
والحديث عن الحد الأدنى للأجور، قديم قدم الحركات العمالية، وتفرضه الظروف الاقتصادية، على مر السنين دائماً؛ حيث كانت دولة نيوزيلندا، أول من سن قانونا للحد الأدنى للأجور في عام 1894م، وتلتها دولة أستراليا في عام ١٩٠٧م.؛ ثم جاءت الولايات المتحدة الأمريكية في عام ١٩٣٨م.، لتُصدر قانون معايير العمل العادلة (FLSA)؛ والذي وضع حدًا أدنى للأجور على المستوى الفيدرالي؛ ومن بعد ذلك اعتمدت دول عديدة تشريعات مماثلة لحماية حقوق العمال، وعززت ذلك المعايير الدولية؛ التي وضعتها منظمة العمل الدولية، ضمن مهامها الرئيسية، وتقوم بمراقبة مدى امتثال الدول لهذا، عند صياغتها لسياساتها الوطنية في الحد الأنى للأجور العادلة؛ الذي يؤثر في الاستقرار السياسي والأمن الاقتصادي والسلم الاجتماعي بمختلف دول العالم.
وتضع منظمة العمل الدولية، قضية الأجور، وظروف العمل والمعيشة، على رأس أولوياتها، ضمن مجالات أربعة رئيسية، توسعت فيها بشكل كبير على مدى أكثر من عقدين، تخصص لها أكثر من نصف مواردها، لمساعدة الدول النامية، في برامج تعاون فني ُتنفّذه بالتعاون الوثيق مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكثيراً مع وكالات الأمم المتحدة المتخصصة الأخرى، ويسهم فيه بالخبرات نحو 900 خبير يمثلون خمسة وخمسين جنسية مختلفة، في أكثر من 300 مشروع للتعاون التقني، يتواجدون فيما يزيد عن 100 دولة حول العالم؛ وكل ذلك لضمان أن يسود السلام العادل والدائم، عن طريق تحقيق العدالة الاجتماعية.
وفي سبيل إقرار العدالة، والتي كانت السبب في حصول منظمة العمل الدولية، على جائزة نوبل للسلام في عام 1969م.، فإن المنظمة تولي اهتماماً كبيراً لمسألة المساواة بين الشركاء الثلاثة، وهم: الحكومة، وممثلي العمال، وأصحاب الأعمال؛ حيث يتمتع الجميع بالتصويت، ضمن الهيئة التداولية العليا للمنظمة، في مؤتمر العمل الدولي السنوي؛ والذي يجتمع سنويًا لصياغة معايير العمل الدولية. فيما يعمل مجلس الإدارة، كمجلس تنفيذي، يقرر سياسة الوكالة وميزانيتها. وتتولى الأمانة الدائمة للمنظمة إدارة وتنفذ الأنشطة المختلفة، بقيادة أمينها العام السياسي التوغولي جيلبرت هونجبو، الذي كان أول أفريقي يتولى هذا المنصب بالمنظمة في عام 2022م.؛ ويكون بذلك المدير الحادي عشر للمنظمة؛ وقد سبقه كل من: ألبرت توماس الفرنسي أول أمين عام لمنظمة العمل الدولي( 1919-1932م)، وهارولد بتلر من المملكة المتحدة(1932-1938م.)، جون جي وينانت الأمريكي(1939-1941م.)، وإدوارد جيه فيلان لأيرلندي (1941-1948م.)، وديفيد أ. مورس الأمريكي ( 1948-1970م.)، كلارنس ويلفريد جينكس من المملكة المتحدة (1970-1973م.)، فرانسيس بلانشارد الفرنسي(1974-1989م.)، ميشيل هانسين البلجيكي(1989-1999م.)، وخوان سومافيا التشيلي(1999-2012م.)، وجاي رايدر، من المملكة المتحدة(2012 -2022م.).
وفي عهد المدير العام الأمريكي جون جي وينانت؛ انتقلت منظمة العمل الدولية، من جنيف، لتتخذ من جامعة ماكجيل بمونتريال في كندا مقراً لها، بناء على دعوة من الحكومة الكندية، بعد أن قامت القوات الألمانية بمحاصرت سويسرا في أغسطس 1940؛ ولم تعد إلى جنيف مرة أخرى؛ إلا عام 1948م.؛ كما أصبحت المنظمة، أول وكالة متخصصة في منظومة الأمم المتحدة عام 1946م. كما تصادمت المنظمة مع الولايات المتحدة الأمريكية، منذ بدية الحرب الباردة؛ حتى وصل الأمر إلى قامت الولايات المتحدة الأمريكية في يوليو 1970م.، بتخفيض دعمها المالي للمنظمة بنسبة 50%، احتجاجاً على تعيين سوفيتي كمساعد المدير العام للمنظمة.
وفي 6 نوفمبر عام 1975م.، انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية، وبقرار من مجلس النواب الأمريكي، من منظمة العمل الدولية، ردأ قبول منظمة التحرير الفلسطينية، كعضو مراقب بالاجتماعات؛ بجانب اتهام أمريكا للتمثيل من الدول الشيوعية، بأنه ليس ” ثلاثياً” حقاً، ولا يعبر بشكل حقيقي عن الأطراف الثلاثة، وهم: الحكومة، وأصحاب الأعمال، والعمال. وقد مقعد الولايات المتحدة الأمريكية شاغراً بالمنظمة؛ حتى عادت إليه في عام 1980م.
وفي يونيوعام1998م.، تبنى مؤتمر العمل الدولي إعلانًا، بشأن المبادئ والحقوق الأساسية في العمل، والقضاء على كافة أشكال التمييز. وتبقى هناك مسؤولية كبيرة على عاتق السياسي التوغولي الأفريقي جيلبرت هونجبو – المدير العام الحالي لمنظمة العمل الدولي-، الذي تعهد خلال فترة ترشحه ومنافسته على مقعد المنظمة، بأن رؤيته لأداء المنظمة، هي مستوحاة من دستورها؛ الذي يؤكد أنه “لا يمكن تأسيس السلام الشامل، والدائم إلا على أساس العدالة الاجتماعية”، وأنه “يجب الحفاظ على التقدم الذي تم إحرازه في العقود الأخيرة في مجال العدالة الاجتماعية، وحمايته، ويجب أن تركز الحلول العالمية للتحديات، والفرص الجديدة على القيم الإنسانية، والبيئية، والاقتصادية، والمجتمعية.. باختصار، يجب فرض عقد اجتماعي عالمي جديد”.
وإذا كان السياسي التوغولي- جيلبرت هونجبو؛ قد جلس على مقعد المدير العام لمنظمة العمل الدولية، بعد مرور 103 عام على تأسيسها؛ وبعد تغلبه على أربعة منافسين، هم: موريال بينيكو- وزيرة العمل الفرنسية السابقة، وكانغ كيونغ- وزيرة خارجية كوريا الجنوبية السابقة، ومثونزي مدوابا- رائد الأعمال الجنوب أفريقي، والأسترالي غريغ فاينز- نائب المدير العام لمنظمة العمل الدولية للإدارة والإصلاح. واليوم هو أمام تحدي حقيقي، ومطلوب منه تكييف معايير المنظمة التي مضى عليها قرن من الزمن مع سوق العمل، في ظل تغييرات كبيرة بفعل تأثير التقنيات الجديدة؛ وتحقيق الهدف الأساسي، الذي من أجله تأسست منظمة العمل الدولية، في حماية العمال، وتحقيق المستوى المعيشي اللائق، وضمان الحد الأدنى للأجور.