ليست الهجرة مجرد حدث طُبع في ذاكرة الزمان، بل هي تجلٍّ خالدٌ لإرادة ربانية، ومشهد إيماني عظيم كتبه الله ليكون معيارًا خالدًا للثقة به، والتوكل عليه، واليقين بنصره. حين نعود بقلوب خاشعة إلى لحظة خروج الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة، فإننا لا نتأمل في قصة عابرة أو نتفيأ ظلال رواية تُروى، بل نقف على عتبة لحظة حاسمة كان فيها الإيمان هو الزاد، والتوكل هو المركب، والثبات على الحق هو الدليل.
إن بداية العام الهجري 1447 ليست تقويمًا نُقلّب فيه الصفحات، ولا مناسبة للتهاني الباردة، بل هي وقفة جادة أمام مرآة الإيمان: أين نحن من الله؟ هل لا زالت قلوبنا تنبض بذلك التوكل الصادق؟ هل ما زلنا نؤمن أن الهجرة سبيل الفلاح، لا هروبًا من الابتلاء؟ إن الهجرة لم تكن فرارًا، بل كانت امتثالًا لوعد الله: *”إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.”* لقد هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم لأن أمر الله كان فوق كل حسابات الواقع، وفوق كل مخاوف البشر، وفوق كل قيود الأرض.
الهجرة اختبار إيماني متجدد لا يسقط بالتقادم، بل يتجدد مع كل غفلة، مع كل لحظة ضعف، مع كل وقت تردد فيه القلوب بين الحق والباطل، بين الثبات والتراجع. وما أحوجنا في هذا الزمن إلى هجرة من نوع آخر، هجرة من المعاصي إلى الطاعات، من التواكل إلى التوكل، من الاستسلام للواقع إلى الثورة الإيمانية على الضعف والانهزام. إننا نعيش زمنًا كثرت فيه الألسن وقلّت فيه الأقدام التي تسير في درب الله، زمنًا ازدحم بالخطب والمواعظ وتعرّت فيه القلوب من نور الهداية.
بداية عام هجري جديد ليست مجرد رقم، إنها دعوة إلهية خفية: من منكم سيهاجر إليّ؟ من منكم سيترك مكّة الغفلة ويعبر صحراء الشهوات إلى مدينة الطاعة؟ من منكم سيستحق أن يُكتب عند الله في سجلّ المهاجرين؟ إن الفارق بين من يؤرخون للهجرة وبين من يحيونها في قلوبهم، هو أن الأولين يقرأون التاريخ، والآخرين يصنعونه.
الهجرة لم تكن نزهة في الرمال، بل كانت لحظة إيمان صلبة، واجه فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم الموت وهو يقول لصاحبه: *”لا تحزن إن الله معنا.”* هنا يكمن جوهر الهجرة: اليقين المطلق بأن الله معنا، مهما اشتد الظلام، ومهما أُوصدت الأبواب، ومهما خانت الأرض ومالت السماء. هنا نتعلم أن المؤمن لا يفرّ، بل يمضي حيث يأمره الله، لا يتردد، لا يساوم، لا يلتفت.
وأتساءل بحرقة المؤمن: كيف نقابل هذه الذكرى ونحن نغرق في التساهل، نبرر تقاعسنا بالدنيا، نغلف ضعفنا بالدبلوماسية، نغطي عجزنا بخطاب بارد لا طعم فيه ولا دمعة؟ بأي عين ننظر إلى هجرة النبي ونحن نعيش في ضجيج الغفلة؟ بأي لسان نهنئ بعضنا على عام هجري جديد، وقلوبنا هجرت القرآن؟ أي عام هجري هذا، وأمتنا هجرت أوامر ربها، وتمسكت بزينة زائلة وأعرضت عن وعد الله الصادق؟!
أيها المؤمنون، الهجرة اليوم ليست إلى يثرب، بل إلى الله. إلى باب لا يُغلق، إلى وعد لا يُخلف، إلى رحمة تسع كل من أقبل بصدق. الهجرة اليوم أن تهجر ذنوبك، أن تتخفف من خطاياك كما تخفف الصحابة من متاع الدنيا في دربهم نحو المدينة. الهجرة اليوم أن تخرج من سجن الهوى إلى فسيح الرضا، من جحيم القلق إلى برد الإيمان، من ضيق الدنيا إلى سعة رضا الله.
لا تنتظروا عامًا جديدًا ليغيركم، بل غيّروا أنفسكم ليكون هذا العام بداية هجرة جديدة لله، صادقة، نقية، جريئة. اكتبوا أسماءكم في سجلّ المهاجرين إلى الله، لا بأقلام البشر، بل بأفعال يعرفها الله وحده. عام هجري جديد لا يُستقبل بزينة واحتفالات، بل يستقبل بركعة صادقة، بدمعة توبة، بقرار أن تعود إلى الله بلا شروط.
إن كنتم تبحثون عن نصر، فاعلموا أن النصر وعد الله للمهاجرين، لا للمترددين. وإن كنتم تفتشون عن كرامة، فاعلموا أن الكرامة لا تأتي إلا حين تهاجر النفس من الذل إلى العز، ومن الحيرة إلى الهداية. أما إن رضيتم بالمقام في أرض الغفلة، فاعلموا أن الزمان لا يرحم، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
1447 عام جديد .. لا معنى له إن لم يكن بداية جديدة في علاقتنا بالله. فهل من مهاجر؟