آراء

د. محمد العوامري يكتب: القضاء حق دستوري أم خدمة مدفوعة ؟

لم يعد الحديث عن الحق في التقاضي مجرد نقاش قانوني نخبوي، بل بات قضية مجتمعية تمس صميم العدالة الاجتماعية، وتطرق أبواب الناس جميعًا، خاصة مع ما تشهده مصر في الآونة الأخيرة من جدل واسع وغضب عارم داخل أوساط المحامين والمتقاضين، بسبب الزيادات المتكررة وغير المبررة في الرسوم القضائية، حتى وصلت الأمور إلى حد الإضرابات والوقفات الاحتجاجية.
لكن الأزمة أعمق من مجرد خلاف مالي؛ فهي تطرح سؤالًا جوهريًا: هل ما يحدث يتفق مع الدستور؟ وهل أصبح اللجوء إلى القضاء — هذا الحق الدستوري الأصيل — مرهونًا بقدرة المواطن على دفع الرسوم؟ وإذا كانت مصر تعاني من هذه الإشكالية، فكيف تبدو الصورة في السعودية، التي طبقت نظام التكاليف القضائية ولكن بضوابط مختلفة؟

القضاء حق دستوري أم خدمة مدفوعة؟ الدستور المصري، في مادته (97)، ينص صراحة على أن التقاضي حق مصون ومكفول للكافة، وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي وحظر تحصين أي قرار من رقابة القضاء. وهو نص في ظاهره يحسم المسألة، فلا يجوز أن يكون الحق في التقاضي مرهونًا بقيد مالي أو إداري.
لكن الواقع يقول شيئًا مختلفًا؛ فقبل أن تدخل قاعة المحكمة، عليك أن تمر على شباك الرسوم، تدفع مبالغ قد تصل في بعض القضايا إلى الآلاف من الجنيهات، وإلا فلن تُقبل دعواك أصلًا. والأسوأ، أن تقدير هذه الرسوم يخضع في الكثير من الأحيان إلى اجتهاد مسئول أو ربما موظف إداري في قلم كتاب المحكمة. دون ضابط واضح أو معيار موضوعي يحكمه، الأمر الذي يفتح الباب واسعًا أمام التقديرات الشخصية والسلطة التقديرية غير المنضبطة.”
وهنا يكمن الخلل؛ إذ كيف يتحول حق دستوري إلى خدمة مشروطة بمقدار ما في جيب المواطن؟ أليس هذا قيدًا غير مشروع على حق التقاضي؟

السعودية… نموذج مختلف رغم الكلفة في المقابل، حين ننتقل إلى النموذج السعودي، نجد أنه رغم إقرار المملكة لنظام التكاليف القضائية في عام 2021، إلا أن الفلسفة التي يقوم عليها مختلفة تمامًا. فالنظام السعودي لا يربط قبول الدعوى بسداد التكاليف مقدماً، بل يضع قاعدة واضحة: “من يخسر الدعوى يتحمل تكاليفها”.
هذا التوجه يحقق معادلة متوازنة؛ فلا يُحرم أحد من حقه في اللجوء إلى القضاء بسبب عجزه المالي، وفي نفس الوقت لا تُهدر موارد الدولة على دعاوى عبثية أو كيدية، إذ يدرك كل متقاضٍ أن الخسارة قد تكلفه سداد التكاليف القضائية الباهظة .

ليس هذا فقط؛ بل إن النظام السعودي حدد بدقة القضايا المعفاة من التكاليف، مثل قضايا الأحوال الشخصية، والقضايا العمالية التي تقام من العامل ضد صاحب العمل.

خلل دستوري أم أزمة تشريعية؟
الأزمة في مصر لا تكمن في وجود رسوم قضائية في حد ذاتها، فمعظم دول العالم تفرض رسومًا لتغطية جزء من نفقات العدالة، لكن الكارثة في غياب الضوابط والمعايير. ففرض الرسوم يتم خارج إطار البرلمان، وتحدده السلطة التنفيذية دون رقابة حقيقية، بما يشكل عدوانًا على مبدأ الفصل بين السلطات.
ثم إن ربط قيد الدعوى بسداد الرسوم مقدماً، يعني عمليًا أن الحق في التقاضي لم يعد حقًا أصيلًا، بل امتيازًا لمن يستطيع دفع تكلفته. وهذه مخالفة دستورية صريحة، تهدر مضمون المادة (97) من الدستور، وتقوض مبدأ المساواة أمام القانون، وتجعل العدالة متاحة للأغنياء فقط.

ماذا يقول الواقع؟
تصاعد الغضب في أوساط المحامين المصريين خلال الشهور الأخيرة لم يكن عبثًا؛ بل جاء نتاجًا لتراكم سنوات من تجاهل هذه الأزمة. عشرات الوقفات الاحتجاجية، بيانات رسمية صادرة عن نقابة المحامين، تهديدات بالإضراب، بل وبعض المحاكم شهدت بالفعل تعطيلًا جزئيًا للجلسات.
رسالة واحدة رفعها الجميع: العدالة لا تُشترى. والقضاء ليس سلعة، ولا يجوز للدولة أن تعالج عجز ميزانيتها على حساب جيوب المتقاضين، وتحت ستار ما يسمى “رسوم قضائية”.
■ من الأقرب لتحقيق العدالة؟
حين نقارن بين النموذجين المصري والسعودي، يظهر بوضوح أن النظام السعودي، رغم أنه يفرض تكاليف قد تكون مرتفعة للغاية في بعض الحالات، وربما أضعافًا للرسوم القضائية في مصر إلا أنه أكثر انسجامًا مع المبادئ الدستورية الحديثة: فلا يشترط دفع التكاليف مقدماً. وإنما يُحمّل التكاليف على خاسر الدعوى، بما يحقق الردع للدعاوى الكيدية، دون المساس بحق التقاضي. كما أنه يضع إعفاءات واسعة لفئات غير القادرين، وللقضايا ذات الطبيعة الإنسانية أو الحقوقية العامة. وأضف الى ذلك صدوره عن سلطة نظامية عليا (مرسوم ملكي)، وليس عبر قرارات إدارية متغيرة.
أما في مصر، فالوضع الراهن يحتاج إلى إعادة نظر جذرية؛ إذ لا يكفي تعديل نسب الرسوم أو تخفيضها، بل لابد من إصلاح تشريعي ودستوري يعيد التوازن بين حق الدولة في إدارة العدالة، وحق المواطن في الوصول إلى القضاء دون عوائق مالية غير مشروعة.

خاتمة… العدالة لا تُشترى
في النهاية، العدالة ليست خدمة تُقدم لمن يدفع أكثر، بل هي حق دستوري أصيل، وواجب على الدولة أن تكفله لكل مواطن، دون تمييز بين غني وفقير.
ولعل هذا الملف بات يستحق أن يُفتح على أوسع نطاق؛ ليس فقط داخل أروقة المحاكم، بل على طاولة البرلمان، وفي وجدان المجتمع كله. لأن العدالة إذا أصبحت امتيازًا ماليًا، فإننا جميعًا خاسرون.

زر الذهاب إلى الأعلى